يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على هذا الصيد الكثير، بالقول:
]امتلأت شباكهم سمكًا عن طريق المعجزة، وذلك ليثق التلاميذ بأن عملهم التبشيري لا يضيع سدى وهم يلقون شباكهم على جمهور الوثنيِّين والضالين. ولكن لاحظوا عجز سمعان ورفاقه عن جذب الشبكة، فوقفوا مبهوتين مذعورين صامتين، وأشاروا بأيديهم إلى إخوانهم على الشاطئ ليمدوا إليهم يد المساعدة. ومعنى ذلك أن كثيرين ساعدوا الرسل القدِّيسين في ميدان عملهم التبشيري، ولا زالوا يعملون بجدٍ ونشاط وخصوصًا في استيعاب معاني آيات الإنجيل الساميّة، بينما آخرون من معلمي الشعب ورعاته وولاته برزوا في فهم تعاليم الحق الصحيحة. لا زالت الشبكة مطروحة والمسيح يملأها بمن يخدمه من أولئك الغارقين في بحار العالم العاصفة والثائرة، فقد ورد في المزامير: "نجني من الطين فلا أغرق، نجني من مبغضي ومن أعماق المياه" (مز 69: 14).]
سابعًا: استجابة بطرس للعمل الإلهي
رأى معلِّمنا بطرس الرسول الصيد الكثير، فلم يهتم بالصيد في ذاته، إنما بالأكثر استنارت أعماقه منجذبًا لشخص المسيَّا صاحب السلطان على السماء والأرض والبحار (مز 8: 8)، فسجد له على ركبتيه، وشعر بمهابة تملأ أعماقه مكتشفًا خطاياه الداخليّة أمام رب السماء والأرض، فصرخ، قائلاً: "أخرج من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ" [8]. لم يقوَ على إدراك هذا النور الفائق، وشعر بالعجز عن الدنو من هذا القدِّوس معترفًا بخطاياه.
لقد صرخ "أخرج من سفينتي" إحساسًا بالمهابة الشديدة، فاستحق في تواضعه وإدراكه لضعفه أن يدخل الرب أعماق قلبه ويقيم فيه مملكته! وكما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل. هذا هو الأساس الأول لكل الحكمة العمليّة.[
لم يكن تواضع بطرس الرسول كلامًا أو عاطفة بل هو تفاعل مع العمل الحيّ الإيجابي، إذ قيل عنه وعن زملائه: "ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر، تركوا كل شيء وتبعوه" [11]... تركوا كل شيء ليكرَّسوا كل القلب لمن أحبوه، بالعبادة الحقيقية والكرازة. وكأن التواضع ليس مجرد شعور بالضعف، إنما هو الارتماء في حضن العريس السماوي ليعيش الإنسان بكل قلبه وطاقاته لحساب العريس وبإمكانيَّاته.
ويعلّق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الترك بالقول: [اخبرني أي شيء عظيم تركه بطرس؟ أليست مجرد شبكة ممزقة (5: 11) وعصا وصنارة؟! ومع ذلك فقد فتح له الرب بيوت العالم، وبسط أمامه الأرض والبحر، ودعاه الكل إلى ممتلكاتهم، بل باعوا ما كان لهم ووضعوه عند قدَّميه وليس حتى في يديه[.
ويعلّق القدِّيس أمبروسيوس على تواضع بطرس هذا الممتزج بالعمل والترك، فيقول: [تعجب بطرس من البركات الإلهيّة التي تدفقت عليه، فكلما أخذ ازداد انسحاقًا. وأنت أيضًا قل: "أخرج يا رب من سفينتي، لأني رجل خاطئ" فيجيبك المسيح: "لا تخف". اعترف للرب الذي يغفر لك خطاياك. لا تتردّد في أن ترد إليه مالك (أترك كل شيء) لأنه هو أيضًا وهبك ما له... تأمَّل محبَّة الله التي وهبت الإنسان السلطان ليأخذ الحياة.]
2. تطهير أبرص
إن كان السيِّد المسيح كصديقٍ للبشريّة جاء إلينا نحن الذين تعبنا الليل كله بلا صيد فوهبنا بكلمته صيدًا كثيرًا جدًا قادمًا من الأعماق يملأ السفينتين، أي الروح والجسد، فنحمل، لا سمكًا ماديًا، بل ثمرًا روحيًا متكاثرًا للروح والجسد معًا، الآن نراه يمد يده بلا استنكاف ليشفي رجلاً أبرصًا يخشى الكل من لمسه أو لمس ثيابه أو متاعه لئلا يتنجسوا حسب الشريعة (لا 13).
سبق لنا فرأينا في دراستنا لإنجيل متى (أصحاح 8) وإنجيل مرقس (الأصحاح الأول) أن هذا الأبرص يمثِّل صورة صادقة لمن يقدِّم صلاة حقيقيّة، فينعم بلمسة يدّي سيِّده ليطهر، كما رأينا الأسباب التي لأجلها أرسله السيِّد إلى الكاهن ليقدِّم القربان حسب ناموس موسى؛ ورأينا في دراستنا لسفر اللاويِّين (أصحاح 14) المفاهيم الحقيقيّة لطقس تطهير الأبرص.
يرى القدِّيس أمبروسيوس في تطهير الأبرص رمزًا لتطهير البشريّة المؤمنة التي لم يشمئز السيِّد من لمسها: [لم يطهر الرب أبرصًا واحدًا بل جميع الذين قال لهم: "أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به" (15: 2). إن كان تطهير الأبرص قد تم بكلمة الرب، فإنَّ احتقار كلمة الرب هو البرص الذي يصيب الروح.]
ويعلّق على لمس السيِّد المسيح للأبرص عند شفائه، هكذا: [لمسه لا لأنه لا يقدر أن يشفيه (بدون اللمس) بل ليثبت أنه ليس أسير الناموس، وأنه لا يخشى انتقال العدوى، إذ لا يمكن أن تمسك به.]
في الوقت الذي فيه لمس الأبرص دون أن يخشى نجاسة البرص (حسب الشريعة)، إذا به يطالب الأبرص أن يتمم ما جاء في الناموس بعد شفائه ليعلن أنه ليس بكاسرٍ للناموس.
يحدّثنا العلامة ترتليان عن إرسال السيِّد المسيح الأبرص للكاهن في طاعة للناموس، قائلاً: [إذ كان يجحد كل مجد بشري أمره ألا يخبر أحدًا عن الشفاء، لكن لأجل تكريم الشريعة سأله أن يسلك ما هو متبع فيها... فقد أراد أن تتم العلاقة الرمزيّة للشريعة من أجل دورها النبوي. هذه الرموز تعني أن الإنسان الذي كان خاطئًا وقد تطّهر من الأدناس بكلمة الله يلتزم بتقديم تقدَّمه لله في الهيكل، أي صلاة وشكر في الكنيسة بالمسيح يسوع الذي هو كاهن الآب المسكوني. لقد أضاف: "شهادة لهم"، فإنَّه بهذا شهد أنه لم يكن محطَّما للناموس بل مكملاً له، وبه أيضًا يشهد أنه ذاك الذي سبق فتُنبىء عنه أنه يحمل أمراضنا وضعفاتنا[.
ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [يأمر الناموس بأن يتقدَّم الأبرص للكاهن لا ليقدِّم ذبيحة خارجيّة، بل يقدِّم نفسه لله ذبيحة روحيّة، فتُمحى نجاسات أعماله السابقة، ويصير مكرَّسا للرب كذبيحة مرضيّة..."فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدَّسة مرضيّة عند الله" (رو 12: 1).]
إن كان الأبرص قد التجأ بالصلاة والطلبة إلى السيِّد المسيح لينعم بالطهارة، فالإنجيلي لوقا يود أن يسحبنا من حين إلى آخر لحياة الصلاة كينبوع للحياة المقدَّسة، مقدَّما لنا السيِّد المسيح نفسه، ممثِّلنا ونائبنا، مصليًا... وهو قابل الصلوات، إذ يقول: "وأما هو فكان يعتزل في البراري ويصلي" [16].
مع أن الجموع كانت عطشى للقاء معه، وكثيرون تمتَّعوا بالشفاء خلال التلامس معه أو سماع كلمة من فيه، لكنه كان "يعتزل ليصلي" ليعلن عن حاجتنا إلى الحياة العاملة المتأمَّلة بلا انفصال. بالحب يتسع قلبنا للعمل لحساب إخوتنا وبذات الحب نلتقي مع الله سريًا لننعم بعمله فينا. بمعنى آخر لا انفصال بين العمل والتأمَّل، الكرازة أو الخدمة والعبادة!
يعلّق القدِّيس كبريانوس على صلاة السيِّد المسيح، قائلاً:
[إن كان الذي بلا خطيّة صلى فكم بالأكثر - يليق بالخطاة أن يصلوا؟! وإن كان السيِّد يصلي على الدوام ساهرًا الليل كله بطلبات غير منقطعة فكم بالحري يليق بنا أن نسهر نحن كل ليل في صلاة مستمرَّة متكررة؟!
لا يصلى الرب أو يطلب عن نفسه، إذ ماذا يطلب ذاك الذي بلا خطيّة؟! إنه يطلب عن خطايانا كما أعلن عندما قال لبطرس: "... طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" ( لو22: 31).]
[إن كان قد تعب وسهر وصلى من أجلنا ومن أجل خطايانا، فكم بالحري يلزمنا نحن أن نصلي على الدوام، نصلي ونتوسل إلى الرب نفسه وخلاله لنرضي الآب. لنا الرب يسوع المسيح إلهنا محامٍ وشفيع من أجل خطايانا، إن كنا نتوب عن خطايانا الماضيّة ونعترف مدركين خطايانا التي بها عصينا الرب، وننشغل بالسلوك في طرقه ومخافة وصإيَّاه.]
3. شفاء المفلوج
الآن إذ يجتمع السيِّد المسيح في بيت وقد أحاط به فرِّيسيون ومعلمو الناموس جاءوا من كل قريّة من الجليل واليهوديّة وأورشليم [17]، كان يعلمهم. وإذ رأى مفلوجًا يدليه أربعة رجال من السقف قطع حديثه ليهب غفرانًا للمفلوج وشفاءً لجسده، وكأنه في صداقته معنا لا يحب التعليم في ذاته كما يحدّث في كثير من المعلمين، وإنما يطلب راحة البشريّة على صعيد الروح والجسد معًا.
سبق لنا الحديث عن هذا المفلوج من واقع كتابات بعض الآباء (إنجيل متى 9، مرقس 2)، ولذا أود الكتابة هنا في شيء من الإيجاز.
تمَّت هذه المعجزة في مدينة السيِّد، أي "كفرناحوم" (مر 2: 1)، أي كفر النياح أو الراحة، لأنه حيث يوجد السيِّد المسيح حالاً في موضع يهب نياحًا للنفس كما للجسد.
اجتمع به جماعة من الفرِّيسيين. "والفرِّيسيون" كلمة آراميّة معناها "المفروزون"، لكن للأسف فرزوا أنفسهم عن عامة الشعب لا لخدمتهم في الرب، بل ليعيشوا في أرستقراطيّة دينيّة عمادها العجرفة والكبرياء؛ هذا هو داءهم الذي أفسد حياتهم وحجبهم عن اللقاء الحقيقي مع السيِّد المسيح بالرغم من صحة عقيدتهم. أما معلمو الناموس فهم "الحاخامات" الذين ركزوا اهتمامهم على "التلمود"، يعيشون في حرفيّة قاتلة.
جاء الفرِّيسيون والحاخامات يتكئون في عجرفة على معلوماتهم الدينيّة وحكمتهم البشريّة، أما ربنا يسوع فكان في وسطهم يعلم ويشفي بقوّة وسلطان!
إذ كان الجمع يزحم البيت انطلق الرجال حاملو المفلوج على السلم الخارجي للبيت حتى بلغوا السطح، فكشفوه ودلوا المريض مع الفراش من بين الأجر إلى الوسط قدام يسوع [19]. وإذ كشفوا السطح بنزع الأجر (الطوب) دلوا المريض في الوسط أمام السيِّد المسيح. وكأنهم يمثِّلون الكنيسة بكل طغماتها وأعضائها (أساقفة - قسوس - شمامسة - شعب)، ينزعون الأجر أي الفكر الترابي والارتباكات الأرضيّة ليكشفوا السقف، فيروا السيِّد جالسًا كما في المساء يهب بركاته بلا حدود.
لم يحتمل الفرِّيسيون أن يروا هذا المنظر. الكنيسة متمثِّلة في هؤلاء الرجال يقدِّمون المفلوج ليسوع دونهم، فأحسوا بانهيار سلطانهم وفقدانهم الكرامة، لذا أرادوا اصطياد خطأ للسيِّد. فلما قال للمفلوج: "مغفورة لك خطاياك" اتهموه بالتجديف، وقد إهتم السيِّد لا بإفحامهم فحسب، إنما بالإعلان عن نفسه، لعلهم يقبلونه ويؤمنون به.
وإذ سبق لنا عرض الكثير من كتابات الآباء في أمر هذا المفلوج (مت 9؛ مر 2) أكتفي هنا بالمقتطفات التاليّة:
v إذ قال المسيح للمفلوج: "أيها الإنسان مغفورة لك خطاياك" قصد السيِّد بذلك أن يخاطب الإنسانيّة بأسرها، كل الذين يؤمنون بالمسيح تُشفى نفوسهم من أسقام الخطيّة وتُغفر لهم آثامهم التي ارتكبوها، وبعبارة أخرى يخاطب المسيح المفلوج قائلاً: لابد وأن أشفي روحك قبل جسدك، أما إذا لم أقم بذلك فإنَّك بقوّة الجسم تمشي على قدَّميك وتعود إلى حياة الإثم والرذيلة، ولو أنك لم تطلب أيها المريض شفاء الروح، فإنَّي أنا إله ورب أرى أمراض النفس وأسقامها، وكيف أتت بك إلى هذا المرض الوبيل.
ولما كان هناك جمع كبير من الكتبة والفرِّيسيين وكان لابد من صنع آيّة لتعليمهم، نظرًا لامتهانهم السيِّد فإنَّ المسيح قام بعمل فائق غريب.
انطرح أمام المسيح على فراش المرض رجل أنهكه الفالج وأعياه ولم ينفع فيه علاج أو دواء واعترف نفس الأطباء بقصورهم عن شفاء رجل دكه المرض دكًا، فيئس أقاربه منه، إلا أنهم رأوا إشعاع الأمل يبدو عن كثب، فأسرعوا إلى حيث المسيح الطبيب العظيم الذي أتى من فوق من السماء، وقدَّموا له مريضهم، وقبل المسيح إيمانه، فبدد الإيمان سحابة المرض، إذ أن المسيح يخاطب المفلوج بالعبارة المشهورة: "مغفورة لك خطاياك".
قد يسأل إنسان: "كان المفلوج في حاجة إلى شفاء جسمه، فلماذا يعلن المسيح له مغفرة الخطايا؟" ليعلمنا بأن الله يشاهد سكون أعمال الإنسان ويرى الطريق الذي يسلكه في حياته، إذ أنه مكتوب "لأن طرق الإنسان أمام عيني الرب وهو يزن كل سبله" (أم 5: 21). ولما كان الله صالحًا ويريد أن كل الناس يخلصون وإلى معرفته يقبلون، فكثيرًا ما يطهر الإنسان الذي يرتكب الإثم والشر بتعذيب جسمه بمرض ينهكه داء يقعده، على حد قول الوحيّ: "تأدبي يا أورشليم... أمامي دائمًا مرض وضرب" (إر 6: 8). وورد في سفر الأمثال: "يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخه، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأب بابن يُسّر به" (أم 3: 10). فحسنًا يعلن المسيح محو الخطايا والآثام فإنَّ في هذه جميعها منبع المرض وجرثومة الداء، فإذا ما مُحيت الخطيّة شُفي الإنسان من مرض الجسم الذي اتصل بها واستبشعها.
"فابتدأ الكتبة والفرِّيسيون يفكرون قائلين: من هذا الذي يتكلَّم بتجاديف" [21].
أعلن المسيح (كما أشرنا إلى ذلك آنفًا) مغفرة الخطايا بسلطان إلهي، ولكن هذا الإعلان أثار الفرِّيسيين وكانوا طغمة جهل وحسد، فتخاطبوا فيما بينهم: "من هذا الذي يتكلَّم بتجاديف؟"
ما كان يمكنكم أن تسألوا أيها الفرِّيسيون هذا السؤال لو كنتم وقفتم على معاني الأسفار المقدَّسة، وطالعتم نبوات الكتاب المقدَّس، وفهمتم سّر التجسد العظيم القدر والفائق الوصف. فبدلاً من درس النبوات اتهمتم السيِّد برذيلة التجديف وحكمتم عليه بالموت، لأن شريعة موسى أعدمت كل إباحي مجدّف، فقد ورد: "ومن جدف على اسم الرب فإنَّه يقتل" (لا 24: 16).
خاطب المسيح الفرِّيسيين قائلاً: "ماذا تفكرون في قلوبكم" [23]، والمعنى الصريح من هذه العبارة "إنكم أيها الفرِّيسيون تعترفون بأنه لا يمكن لغير الله غفران الخطايا؟ ولكن اعلموا أيضًا أنه لا يمكن لغير الله معرفة ما يدور في خلد الإنسان فهو وحده الذي يكشف عن أعماق القلب فيقف على أسراره ونيَّاته، إذ ورد على لسان النبوَّة "أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى" (إر 17: 10)، ويشير داود إلى ذلك بالقول: "المصور قلوبهم جميعًا المنتبه إلى كل أعمالهم" (مز 33: 15)، فالله الذي يصور القلوب والكلى هو الله الذي يغفر الخطيّة والإثم.
"ولكن لكي تعلَّموا أن لابن الإنسان سلطانًا" [24].
حتى يبدد المسيح سحابة الشك والريب التي تظلل بها الكتبة والفرِّيسيون، لم يغفر السيِّد خطايا الرجل المفلوج فحسب لأن الإنسان يعجز عن رؤيّة الخطايا المغفورة بعيني رأسه، بل أمر المرض فزال عن جسم المفلوج، فقام الرجل يمشي سليمًا صحيحًا، مشيرًا إلى عظمة القوّة الإلهيّة التي شفته من مرضه. فلم يؤجل كلمات المسيح للمفلوج: "قم وأحمل فراشك واذهب إلى بيتك" [25]، فقد قام الرجل لساعته وعاد إلى بيته سليمًا معافي. حقا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا.
ولكن إلى من تشير هذه الآية؟ هل تكلَّم المسيح عن نفسه أو عنا؟ الواقع أن هذه الآية تطلق على المسيح وعلينا، لأن السيِّد يغفر الخطايا بصفته الإله المتجسد رب الناموس وواضعه، وقد تسلمنا نحن هذه القوّة الفائقة، وذلك بتتويج طبيعة الإنسان بشرفٍ عظيم القدر، حيث خاطب المسيح رسله المقدَّسين بالقول "الحق أقول لكم أن كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء" (مت 18: 18)، وورد في موضع آخر "من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت" (يو 20: 23).
القدِّيس كيرلس الكبير
v "فلما رأي إيمانهم" [20]. عظيم هو الرب الذي يغفر للبعض من أجل طلبة الآخرين، ويقبل تضرعات البعض من أجل غفران خطايا الغير!...
خادم الله له الحق أن يطلب عنك، وله دالة فُيستجاب له!...
تعلَّم أيها المريض كيف تتضرع، وإن كنت لا ترجو غفرانًا لخطاياك فالجأ لمن يشفع عنك، إلى الكنيسة التي تصلي من أجلك، ومن أجلها يهبك الرب الغفران...
القدِّيس أمبروسيوس
v يقول البعض بأن هذا الرجل قد شُفي لمجرد إيمان الحاملين له، ولكن هذه ليست الحقيقة، لأن القول: "فلما رأى يسوع إيمانهم" لا يشير إلى إيمانهم وحدهم بل وإيمان الذي كان يحملونه، لماذا؟
تقول: ألم يشِف أحدًا لأجل إيمان آخر؟ في رأيي ما أظن هذا إلا في حالة عدم نضج السن (القاصر) أو الضعف الشديد لدرجة عدم القدرة على الإيمان...
لا تصغي بلا اهتمام إلى العبارة القائلة أنهم دلوه من السقف، بل تأمَّل كيف أن مريضًا يمكن أن يكون له الثبات على مكابدة إنزاله مدليًا من السقف. أنت تعلَّم أن المرضى قلوبهم واهيّة حتى أنهم غالبًا ما يرفضون المعاملة التي يلاقونها وهم على أسرة مرضهم، غير راغبين في احتمال آلام العلاج، مفضَّلين احتمال آلام المرض عنها. أما هذا الرجل فكان له من العزم أن يخرج من المنزل، ويُحمل وسط السوق، ويصير منظرًا وسط الجماهير، مع أنه عادة يُفضَّل المرضى الموت على أسرة مرضهم عن أن تنفضح مصائبهم الخاصة. هذا المريض لم يفعل هذا فحسب، بل وعندما رأى أن مكان الاجتماع مزدحم والمقتربين متكتلين وميناء الأمان معاق خضع للتدليّة من السقف... لقد نظر أنها كرامة له أن يشهد كثيرون شفاءه.
ونحن نتفطن إلى إيمانه لا من هذا فحسب، بل ومن كلمات السيِّد المسيح أيضًا، لأنه بعدما ألقوا به وقدَّموه للسيِّد، قال له: "ثق يا بني مغفورة لك خطاياك". وعندما سمع هذه الكلمة لم يغتظ ولا تذمر، ولا قال للطبيب: ماذا تقصد بهذه الكلمات؟ أنا أتيت لتشفيني من شيء، وها أنت تشفيني من شيء آخر... إنه لم يفكر في هذا ولا نطق به، بل انتظر تاركًا للطبيب أن يتبنى طريقة الشفاء التي يريدها.
لهذا السبب أيضًا لم يذهب السيِّد المسيح إليه، بل انتظره حتى يأتي إليه، لكي يعلن إيمانه أمام الجميع.