v على أي الأحوال، فإن يسوع يهاجمه شهود زور في كل وقت. طالما وُجد الشرّ في العالم فهو مُعرَّض للاتِّهامات بصفة دائمة. ومع ذلك فإنه لا يزال صامتًا أمام هذه دون أن يقدّم إجابة مسموعة، بل يضع دفاعه في حياة تلاميذه الحقيقيّين، وتعتبر هذه الحياة شهادة سامية جدًا تسمو فوق كل شهادة زور، وتفنِّد كل الهجمات والتهم التي بلا أساس وتهدمها.
العلاّمة أوريجينوس
4. إطلاق باراباس
بقدر ما تكاتفت قُوى الشرّ معًا ضدّ السيِّد المسيح للتخلُّص منه بالصلب، كان السيِّد وهو يقدّم نفسه فِصحًا عن البشريّة كلها بسرور، يسمح ببركات رمزيّة منظورة أثناء صلبه، كرمز للبركات غير المنظورة. ففي التشاور ضدّه التقت الجماعات الدينيّة المتضاربة معًا تشترك في هذا الهدف الواحد، وكأن بموته يقدّم المصالحة بين المتضارِبين في الفكر والمتخاصِمين ليس فقط بين فئات أُمَّة واحدة، وإنما بين أجناس وألسِنة وأممٍ متنوّعة. وأثناء محاكمته أرسله بيلاطس لهيرودس بكونه واليًا على الجليل، وكان الأخير يشتاق أن يراه فتمَّت مصالحة بين بيلاطس وهيرودس بسبب السيِّد المُقيَّد تحت المحاكمة! وقبْل الصلب مباشرة طلب بيلاطس من الشعب أن يطلق لهم واحدًا في العيد، فصرخوا أن يُصلب يسوع ويُطلِق باراباس الأسير المشهور، فأنقذ السيِّد بموته حياة باراباس!
إذ وقف السيِّد بين يديّ بيلاطس "تعجّب الوالي جدًا" [14]،كما "علم أنهم أسلموه حسدًا" [18]. وإذ أراد الله أن يُرشده حدَّثه خلال زوجته في حُلم، فأرسلت تقول له: "إيّاك وذلك البار، لأني تألّمت اليوم كثيرًا في حُلم من أجله" [19].كان ذلك درسًا ليس لبيلاطس وحده، وإنما لرؤساء الكهنة والشيوخ لكي يروا ويسمعوا غريب الجنس بيلاطس يُعلن براءة السيِّد بغسل يديه قدَّام الجميع. وهو يقول: "إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم" [24].
5. آلامه قبيل الصلْب
بعد أن جُلد السيِّد [26] وأُسلِم للصلب، اجتمعت عليه كل الكتيبة، فعرُّوه وألبَسوه رداء قُرمزيًا، وضفروا إكليلاً من الشوك ووضعوه على رأسه، وقصبة في يمينه، وكانوا يجثون قدَّامه ويستهزئون به، قائلين: "السلام يا ملك اليهود"، وبصقوا عليه وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه.
كان لابد للسيِّد وهو يقبَل الصلب أن يكشف عن ماهيّة ثمار الشرّ، بكونه نائبًا عن البشريّة يحمل ثمرة شرّهم.
يطلب الإنسان الخطيّة ويسعى إليها من أجل مُتعة وقتيَّة، أو لذّة جسديّة، فأسلم السيِّد جسده للجلد وتعرَّض القدّوس جسديًا للجلدات المُميتة! كان مع كل جلدة تطبع علاماتها على الجسد الرقيق الوديع يرى السيِّد ثقل خطايانا كجلدات أبديّة ليس من يقدر أن يحملها غيره، متقبِّلاً إيّاها عنا. لهذا يقول الرسول: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطيّة خطيَّة لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو5 : 21).
الخطيّة في حقيقتها هي ثمر الأنا ego وفي نفس الوقت تضَّخم من الأنا. فالإنسان بأنانيَّته يطلب ما لنفسه من أمور ماديّة أو كرامات أو ملذّات، وهذه بعينها تُشعل بالأكثر حبّه لذاته، فيظن في نفسه أنه مركز الكون كله، يعمل الجميع من أجله. هذا ما أعلنته الحيّة لحواء عند إغوائها: "الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله" (تك 3: 5). لقد أراد الإنسان أن يتألَّه، فتنفتح عيناه ليرى ذاته فوق الجميع، يُسخِّّر كل شيء لذاته! لهذا اجتمعت الكتيبة كلها عليه، وكأنها تُمثل البشريّة كلها أو العالم كلّه، وقد اِلتفُّواحول الخاطي لا ليُكرِّموه ويعملوا لحسابه، وإنما لينزعوا عنه ثيابه ويلبسوه ثوبًا قُرمزيًا للسُخرية، إذ أراد الخاطي أن يُقيم نفسه إلهًا أو ملكًا. بالخطيّة فقد الإنسان إكليل المجد الخفي الذي وهبه الله ليسيطر به على كل الخليقة الأرضيّة، وضفر لنفسه إكليل شوك، هو من صنع الأرض التي لُعنت بسببه. عِوض الصوْلجان الذي قدّمه له الله ليملك على قلبه وأحاسيسه ومشاعره، قبِل أن يملك على الغير سلمته الخطيّة قصبة في يمينه، هو قضيب سُخرية يكشف عن فقدانه السلطان على حياته الداخليّة وكل أفكاره وأحاسيسه، فصار كقصبة تحرّكها الريح! في سُخرية تمسِك الخطيّة بهذا الصولجان المستعار لتضرب به على رأسه، وكأنها تُعلن أن ما حسبه كرامة ومجدًا له، إنّما هو انهيار حتى لرأسه وأفكاره الداخليّة.
ظنّ الإنسان في خطيّته أنه يملك فيجثو له العالم، وإذا بالعالم في سُخرية يجثو ليهزأ به، قائلاً: "السلام يا ملك اليهود"، وكأنه يوبِّخه، قائلاً له: يا من فقدت سلامك الداخلي كيف تطلب سلامًا من الخارج؟! يا من خسرت ملكوتك على نفسك أتريد أن تملك على الآخرين؟!" فما حدث للسيِّد المسيح من آلام وسُخرية إنّما حمل صورة ظاهرة لِما كان يثْقُل على كتفيّ السيِّد، خلال خطايانا التي انحدرت عليه ليدفع عنّا ثمنها في جسده!
6. آلامه أثناء الصلب
انطلق السيِّد يحمل صليبه إلى جبل الجلجثّة أي الجمجمة، ويُقال أنه هناك دُفن آدم. على أي الأحوال، رُفع الصليب في موضع الجمجمة لكي يهب حياة للعظام الجافة الميّتة! لقد حمل عنّا الموت واهبًا إيّانا الحياة! يتحدّث القدّيس كيرلّس الكبير عن حمل السيِّد لصليبه هكذا:
[توجد ضرورة لهذه الحقيقة أن يحمل المسيح مخلّص الجميع الصليب، إذ قيل عنه على لسان إشعياء: "يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا وتكون الرئاسة على كتفه" (إش 9: 6). فالصليب هو رئاسته، به صار ملكًا على العالم. وإذ كان هذا حق "أطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفَعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة من في السماء وما على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الأب(في 2: 8).
وأيضًا أظن أنه يلزم مراعاة هذا هنا (أن يحمل الصليب)، لأنه عندما صعد الطوباوي إبراهيم على الجبل الذي رآه ليقدِّم اسحق محرقة كأمر الله وضع الحطب على الابن، وكان ذلك رمزًا للمسيح الحامل صليبه على كتفيه مرتفعًا إلى مجد صليبه. فقد كانت آلام المسيح هي أمجاده كما علَّمنا بنفسه: "الآن تمجّد ابنالإنسان وتمجّد الله فيه" (يو 13: 31).]
وفي الطريق إلى الصلب إذ سقط عدة مرّات تحت ثقل الصليب سخَّروا رجلاً قيروانيًا يسمّى سمعان ليحمل معه صليبه، وكأنه يمثّل كنيسة العهد الجديد التي يلزمها في نضوج الرجولة الروحيّة أن تغتصب الملكوت بشركتها مع السيِّد في صلبه. إنه لمجد عظيم أن ينحني المؤمن ليحمل مع سيّده آلامه، لكي تصير له معرفة اِختبارية بقوة القيامة وبهجتها فيه.
على الصليب "أعطوه خلاً ممزوجًا بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرِد أن يشرب" [34].كانت هذه هي عادة الرومان في الصلب، يُعطي الخل الممزوج مرارة كنوعٍ من التخدير، فلا يشعر المصلوب بكل ثقل الآلام. لكن السيِّد ذاق المرارة عنّا ورفض أن يشرب الخل حتى يحمل الألم بكماله بإرادته الحرَّة.
إذ صُلب السيِّد اقتسم الجند ثيابه أربعة أقسام، أمّا قميصه الذي كان بلا خياطة منسوجًا كلّه من فوق (يو 19: 23) فقد ألقوا عليه قرعة "لكي يتمّ ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة" [35]، هذا ولم يوجد مع ثيابه أحذية. فمن جهة الثياب المقتسمة إلى أربعة أقسام، فإنها تُشير إلى الكنيسة جسد المسيح الملتصق به، فقد انتشرت في أربعة جهات المسكونة. صارت بين يديّ الجند الرومان، في متناول يد الأمم، يستطيعون التمتّع بالعضويّة فيها.
أمّا القميص الذي بلا خياطة، المنسوج كلّه من فوق، لا يُشق ولا يُقسَّم، فيُشير إلى الكنيسة الواحدة التي يلزم ألا يكون فيها اِنشقاقات أو انقسامات. لقد حرص السيِّد حتى في صلبه ألا يُشق ثوبه، وكأنه كلما دخلت الكنيسة في شركة صليبه، يحرص السيِّد ألا تدخل في انشقاق أو انقسام، لكن للأسف يحدث ذلك حينما توجد الكنيسة في فترة ترف بعيدًا عن الصليب.
لقد كشف الصليب أن ثوبه منسوج من فوق (يو 19: 13)؛ هكذا إذ تدخل الكنيسة دائرة الألم تنكشف طبيعتها السماويّة، أنها منسوجة بيد الله نفسه، هي من عمل روحه القدّوس! هذا ولم يوجد للسيِّد حذاء يخلعه، فقد رأينا في دراستنا سفر الخروج كيف يُشير الحذاء إلى الأعمال الشرّيرة الميّتة، لهذا يخلعه الإنسان عند وقوفه أمام الله في موضع مقدّس كما فعل موسى النبي (خر 3: 5).
بعد إلقاء القرعة على قميصه "جلسوا يحرسونه هناك" [36].لم يكن السيِّد المسيح محتاجًا إلى حراسة، إنه الخالق الذي "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء ممّا كان". لكنّه خضع بجسده لهذه الحراسة. حقًا لقد سمح السيِّد المسيح بطريقة خفيَّة للعسكر مضطهديه أن يكونوا حُرَّاسًا له على الصليب! إنها صورة مشرقة للعمل الإلهي، إذ يسمح للتجارب المحيطة بالكنيسة جسده المصلوب أن تكون حارسًا لها. التجارب تسند المؤمنين، فيعيشوا بروح التواضع وتزكّيهم! قدر ما يكون الأمر ثمينًا تزداد الحراسة، وقدر ما يعتزّ الله بأولاده وكنيسته يسمح له بالضيقات حتى يعبروا هذه الحياة محفوظين فيه.
"وجعلوا فوق رأسه عِلَّتِه مكتوبة: هذا هو يسوع ملك اليهود"...
لقد تُوِّج الملك بالصليب! وكما تقول الكنيسة في سفر نشيد الأناشيد: "اُخرجْن يا بنات صهيون، وانظرْن الملك سليمان بالتاج الذي توَّجته به أُمِّه في يوم عرسه وفي يوم فرح قلبه" (نش3: 11). أنها تدعو النفوس المؤمنة أن تخرج عن ذاتها وتتطلّع إلى ملكها واهب السماء، لتدخل معه خلال الصليب إلى عرسه وتنعم بالفرح القلبي الأبدي!
"حينئذ صلبوا معه لصَّان، واحد عن اليمين، وواحد عن اليسار" [38].
جلس المعلّمون اليهود على الكراسي يعلِّمون كمن هم من فوق، يوبِّخون وينتهرون، يخشون على أنفسهم لئلا يمسّوا نجسًا فيتنجَّسوا، أمّا السيِّد فقدَّم مفهومًا جديدًا للتعليم، إذ ترك الكرسي ليُحصى بين الأثمة والمجرمين، يدخل في وسطهم ويشاركهم آلامهم حتى الصليب ويقبل تعييراتهم، معلنًا حُبّه العملي لكي ينطلق بهم إلى حضن أبيه. لقد صُلب مع اللصّين ولأجلهما، حتى إن أراد أحدهما يقدر أن يقبَله داخله ملكًا حقيقيًا يرتفع به إلى فردوسه، قائلاً له: "اليوم تكون معه في الفردوس".
7. الاستهزاء به
تكاتفت كل قوى الشرّ ضدّ السيِّد المسيح لتقديم أمرّ صورة للصليب فقد "كان المجتازون يجدّفون عليه وهم يهزُّون رؤوسهم، قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلِّص نفسك؛ إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" [40].
فقد المجتازون به اتّزانهم، وصاروا يهزّون رؤوسهم علامة السُخرية به، وكانوا يجدّفون عليه، قائلين: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلِّص نفسك". ولم يُدركوا أنهم هم الذين يبذلون كل الجهد لنقض هيكل جسده، إنّما يشهدون له بأنه سبق فأعلن عن قيامته مقدَّمًا، فصار المجدِّفون شهود حق لعمله الخلاصي وحياته المقامة، لقد طلبوا منه أن يخلِّص نفسه ولم يُدركوا أنه إنّما يخلِّصهم بقيامته، يقوم فيُقيمهم.
لعلّ الشيطان بدأ يتحسَّس خطورة الصليب، فارتعب واشتهى أن ينزل السيِّد عن صليبه، لكن فات الأوان، فأثار المجدّفين ليطلبوا منه: "إن كنت ابن الله فاِنزل عن الصليب". ازداد تخوُّفه فأثار أيضًا رؤساء الكهنة مع الكتبة والشيوخ ليسألوه إن كان يقدر أن ينزل عنه، قائلين: "خلَّص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلِّصها. إن كان هو ملك إسرائيل، فلينزل الآن عن الصليب، فنؤمن به" [42].لقد ركّز الشيطان في هذه اللحظات على نزوله من الصليب، حتى اللصان أيضًا كانا يعيِّرانه [44] لعلّه ينزل.
8. ظُلمة على الأرض