حتى أوائـل القرن الماضي كان الاعتقاد السائد بين معظم الفلاسفة الملحدين أن ما ورد في الكتاب المقدس، لا سيما في العهد القديم، لا يزيد عن كونه قصصاً وهمية لفّقها كتبة الأسفار بغرض تقديم المبادئ الأدبية والروحية بصورة سهلة إلى البشر. لكن منذ ذلك التاريخ، نظراً لتقدم علم الآثار (الأركيولوجى)، ظهرت اكتشافات عديدة جاءت كلها مؤيدة لما أورده الكتاب المقدس من أخبار.
وقبـل أن نستعرض جانباً من هذه الاكتشافات، نريد أن نشير إلى أمرين هامين فى الكتاب المقدس نفسه يؤكدان صحة تواريخ الكتاب، وينفيان شبهة التزوير والتلفيق عنه.
أولاً: توافق السرد التاريخي للكتاب بعضه مع بعض، وعدم تعارض أحداثه الواحد مع الآخر في أدق التفصيلات، حتى تلك الإشارات العابرة التي جاءت عرَضاً في أسفار متباعدة لكتاب مختلفين.
وثانياً: توافق السرد الكتابي مع التاريخ الوضعي.
أولا: توافق السرد التاريخي للكتاب
كأمثلة لهذا التوافق نذكر:
1- يخبرنا سفر الخروج 6: 20 أن عمرام أبا موسي تزوج بعمته يوكابد، (أنظر أيضاً خر2: 1، 6: 16، 18). وهذا الوضع غير المألوف يفسره إشارة عابرة وردت فى سفر آخر وهو أن يوكابد هذه وُلِدت للاوى* في مصر (عد26: 59)، أي بعد ميلاد أخيها قهات بفترة كبيرة. والأرجح أن أخاها تزوج وأنجب بكره عمرام قبل أن تُولد يوكابد، لأنه من إشارة ثالثة وردت في تكوين 38 نفهم أن أولاد يهوذا، أخي لاوي الأصغر منه، كانوا قد تزوجوا وهم في أرض كنعان قبل نزولهم إلي مصر.
2- يخبرنا الوحي في يشوع3: 15 أن موعد عبور الشعب لنهر الأردن حدث فى وقت الحصاد. لكن فى أي فترة من الحصاد؟ نفهم من يشوع 5: 10 أنهم فـور عبورهم الأردن عملوا الفصح في الرابع عشر من الشهر (الأول)، وبعده مباشرة يأتي الحصاد الأول (حصاد الشعير). أما الحنطة فتُحصد بعد ذلك بفترة . ثم من خروج9: 31 نفهم من سياق الكلام أن حصاد الكتان يكون في نفس وقت حصاد الشعير. فإذا رجعنا إلى يشوع2: 6 نجد هناك إشارة عابرة لها قيمتها فيما نحن بصدده إذ يذكر أن راحاب الزانية أخفت الجاسوسين في بيتها، قبيل عبور الشعب للأردن مباشـرة، « ووارتهما بين عيدان كتان لها منضّدة علي السطح » (أي مقطوعة حديثاً ومبسوطة بغرض تجفيفها). فهل هذا الاتفاق بين هذه الأسفار المتعددة، يتفق والقول بأنها ملفقة؟!
3- عندما أرسل موسى الجواسيس الاثنى عشر لتجسس الأرض رأوا هناك الجبابرة بنى عناق. ومن سفر ثانٍ نفهم أن يشوع لما تولى القيادة خلفاً لموسى، فإنه قرض تماماً سكان الأرض، ويضيف قائلاً « فلم يتبق عناقيون فى أرض بنى إسرائيل، لكن بقوا (فقط) فى غزة وجت وأشدود» (يش11: 21،22). ومن مدينة جت التى بقى فيها الجبابرة، خرج بعد نحو 400 سنة ذلك العملاق الجبار "جليات" الذى كان طوله ستة أذرع وشبر، وذلك حسبما نقرأ فى سفر ثالث (1صم17: 4).
4- لما أراد داود أن يجعل والديه فى مأمن من مضايقات شاول الملك لهما، يَرِد فى إشارة عابرة القول « ذهب داود من هناك إلى مصفاة موآب. وقال لملك موآب ليخرج أبي وأمي إليكم حتى أعلم ماذا يصنع لي الله » (1صم22: 3). فلماذا اختار موآب بالذات؟ الإجابة نفهمها من سفر راعوث. فجدة يسى أبى داود هي راعوث الموآبية، فلصِلة قرابة الدم « ودعهما عند ملك موآب » (انظر را4: 17)
ثانيا: توافق السرد الكتابي مع التاريخ.
1- إن ما ذكره الكتاب المقدس في تكوين1، 2، ولخصة الله بالقول « فى ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع » (خر20: 11) يؤيده أن كل شعوب العالم درجت منذ القديم علي اعتبار الأسبوع سبعة أيام، منها يوم راحة! ونحن نعرف أن اليوم محدد نظراً لدوران الأرض حول محورها أمام الشمس، وأن الشهر تحدد نظراً لدوران القمر حول الأرض، وأن السنة تحددت نظراً لدوران الأرض حول الشمس، لكن لماذا تحدد الأسبوع؟ وعلى أي أساس؟ لا نجد إجابة شافية عن اتفـاق كل شعوب الأرض، حتى البدائية منها على هذا الأمر إلا ما ورد فى تكوين 1،2.
2- من النافذة الضيقة المفتوحة في الكتاب علي عالم ما قبل الطوفان، نستدل على أنه كانت قد مرت بالبشرية إذ ذاك ثلاثة عصور: الأول هو العصر الحجري. ثم ابتداء من توبال قايين نقرأ عن اختراع كل آلة من نحاس وحديد (تك4: 22)، مشيراً إلى العصر النحاسي والحديدي. ولاحظ أنه يذكر النحاس أولاً، وهو عين ما يقوله علم التاريخ.
ولأن توبال قايين، وهو سليل قايين يعادل في الترتيب متوشالح حفيد شيث، فإننـا نستنتج أنه كان معاصراً له. وإذ نعرف أن متوشالح ولد سنة 687 من خلق آدم، ومات سنة 1656، فإنه يمكن استنتاج تقسيم معقول لهذه العصور: فالعصر الحجري استمر نحو ثمنمائة سنة، وتلاه العصر النحاسي (أو البرونزي) واستمر نحو خمسمائة سنة ثم الحديدي ثلثمائة سنة.
ويحرص الوحي على أن يسجل أن العصر الحديدي بدأ قبل الطوفان، فما كان ممكناً بناء الفلك قبل بداية العصر الحديدي.
3- شئ آخر يستوقفنا في قول يوسف لإخوته « لأن كل راعي غنم رجس للمصريين » (تك46: 34)؛ لماذا ذلك؟ الأرجـح لأنه كان هناك ملوك رعاة حكموا مصر. ولأنهم كانوا مغتصبين السلطة فإنهم كانوا مكروهين لدى المصريين.
ويعتقد الكثيرون أن الهكسوس هم الذين كانوا يحكمون البلاد وقت نزول إبراهيم إليها، وأنهم كانوا عرباً، أي ساميين. وهذا هو سر كرمهم مع إبراهيم.
لكن كيف يمكن أن يقوم بعد موت يوسف بفترة وجيزة « ملك جديد علي مصر لم يكن يعرف يوسف » (خر1: 8)؛ يوسف الذي أنقذ مصر والعالم من كارثة محققة، والذي ظل لعشرات السنين ثانياً لفرعون؟! الإجابة هي أن ملك سفر الخروج هذا هو بلا شك أول ملوك أسرة جديدة من الأسر التي تعاقبت حكم مصر، فأراد هذا أن يقلل من شأن من تعاونوا مع النظام السابق، أو لعله خلط بين أولئك الرعاة العبرانيين، والملوك الرعاة.
4- وبصدد الحديث عن مصر وتاريخها تُقابلنا عقبة تعترض توافق السرد الكتابي والتاريخ. فمن الكتاب المقدس نعرف أن خلق آدم كان من نحو ستة آلاف سنة، مع أننا نسمع أحياناً أن مصر ذات حضارة عمرها 7آلاف سنة!!
وردّنا على ذلك هو أن المؤرخين الذين كتبوا عن تاريخ مصر لم ينتهوا إلى نتيجة محددة في مسألة هذه التواريخ. والاختلافات بينهم ليست ضئيلة بل إنها تصل إلي قرون. ونسجل هنا شهادة أحد الثقات في هذا المجال وهو المكتشف الفرنسي الشهير شمبليون إذ قال عن أعماله في مقابل الذين يهاجمون الكتاب المقدس « إنهم سيجدون في هذا العمل الرد المطلق علي افتراءاتهم إذ قد برهنت أنه لا يوجد في الواقع أي أثر مصري أقدم من عام 2200 ق.م. ومـع أن هذه بلا شـك تعتبر آثاراً عظيمة لكنها فى نفس الوقت لا تتعارض فى شئ مع التاريخ المقدس بل إني أتجاسر وأقول أنها تؤيده في كل النقاط».
وبهذه المناسبة نذكر حادثة طريفة عن السير وليم رمساى، أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة إبرديـن بسكوتلاندا، وقد كان في زمانه أشهر حجة في علم التاريخ والجغرافيا لأسيا الصغرى (تركيا حالياً). وفي غيرته لدراسة كل المصادر المتاحة والوثائق القديمة عن تاريخ تلك البقعة فإنه درس سفر الأعمال وكذلك إنجيل لوقا. وفي البداية درس رمساى هذين السفرين بكثير من التشكك والتحفظ، لكنه بعد سنوات من الدراسة المكثفة، فإن ذلك الذي بدأ متشككاً، أصبح واحداً من أشهر المدافعين عن كتابات لوقا، حتى في أدق وأصغر التفصيلات. هذه التفصيلات البسيطة ، أسرت في البداية ذهنه، ثم ملكت قلبه، وكتب رمساى فيما بعد العديد من الكتب، أحد أشهر هذه الكتب بعنوان "الاكتشافات الحديثة تؤكد صحة ودقة أسفار العهد الجديد" ومما قاله : "إني أعتقد أن التاريخ الذي يقدمه لوقا لا يوجد أجـدر منه بالثقة. وإذا قارنت ما كتبه لوقا، بما كتبه باقي المؤرخين، فإنها هي ستكون بلا شك الأشد تدقيقاً والأكمل شرحاً".
نأتي الآن إلى ما يقدمه علم الآثار (الأركيولوجى) من براهين إيجابية تؤكد صحة ودقة الكتاب المقدس. ودون أن يراودنا الفكر لحظة واحدة أن الكتاب المقدس يحتاج إلى إثبـات من الحجارة الميتة، فإنه بلا شك أمر مثير أن نرى كيف تحمل الآثار الأقدم فى العالم الشهادة لصحة الكتاب الأقدم فى العالم، نعم وتتفق مع الكتاب المقدس فى أدق التفصيلات. وسنقصر الحديث في هذا الموضوع الشيق الواسع على النقاط الأربع الآتية:
أولا: صحة الأماكن المذكورة فى الكتاب المقدس
1- موقع الجنة (تك2)
« وغرس الرب الإله جنة فى عدن شرقاً »
تشير الوثائق الأثرية إلى أن سهول العراق الواقعة جنوب غرب بابل القديمة كانت تُدعي عدن. ونلاحظ أن التوراة تسجل لنا أسماء الرؤوس الأربعة للنهر الذى كان يخرج من عدن ليسقى الجنة. النهر الثالث هو حداقل ويسمى اليوم دجلة. والرابع هو الفرات. أما الأول والثاني فهما فيشون وجيحون. ولقد اكتشف عالم الآثار الألماني "دلتش" قائمة في بابل بأسماء الأنهار الرئيسية التي كانت موجودة قديماً، ومن بينها نهر باسم فيشانو وآخر باسم جيحانو
2- المدن الأولى التى بنيت بعد الطوفان (تك10)
يسجل الكتاب المقدس أن نمرود - مؤسس المملكة البابلية - قد بنى ثماني مدن. وقد تم بالفعل اكتشاف أطلال* سبع مدن. ولم يبق سوى مدينة واحدة لم يستـدل علي موقعها حتى الآن، هي مدينة أكد. وفي وسط أطلال مدينة كالح وهى واحدة من السبع المدن المكتشفة، وتبعد 30 كم جنوب شرق نينوى بالقرب من نهر دجلة، اكتشـف "سير أوستن لآيار"الإنجليزي عام 1845 تمثالاً لثور مجنح باسم "الصياد الجبار" الذي يُرجَح جداً أنه هو نمرود نفسه مؤسس هذه المدينة والذي عنه يرد قول الكتاب المقدس « كنمرود جبار صيد أمام (أى ضد) الرب ».
3- مدينة حاران (تك: 31، 32، أع7: 2-4)