- التكامل التاريخييعطينا الكتـاب المقدس ككل تاريخ البشرية مسلسلاً من البداية إلى النهاية دون أية فجـوات تاريخية. فسفر ينتهي ليبدأ سفر آخر من حيث انتهى سابقه تماماً. كأن الكاتب الأول سلم الراية لمن تلاه، مع أنهما قد لا يكونان التقيا على الأرض إطلاقاً.
يبدأ سفر التكوين من البدء، أول الزمان، ويُختم سفر الرؤيا بعتبات الأبدية. وبين هذين السفرين تتتابع الأسفار الإلهية واحداً تلو الآخر في استطراد تاريخي عجيب.
يحدثنا سفر التكوين عن الأيام الباكرة في حياة البشرية ويغطي بالتتابع حقبة زمنية* قدرها 2300 سنة تقريباً منتهياً بموت يوسف، ليبدأ بعده سفر الخروج بملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف (خر1: 8). وإذ يختم سفر الخروج بتأسيس خيمة الاجتماع في البرية وامتلائها من مجد الرب، فإن سفـر اللاويين يُفتتح بحديث الرب إلى موسى من خيمة الاجتماع.
وهكذا تواصل باقي أسفار موسى الخمسة القصة، حتى تنتهي بموت موسى رجل الله نحو سنة 1450 ق.م، وبعدها يفتتح سفر يشوع بالقول « وكان بعد موت موسى عبد الرب ». ثم يُختم هذا السفر بموت يشوع عن 110 سنة، ليبدأ السفر التالي، سفر القضاة، بالقول « وكان بعد موت يشوع أن..». وإذ يختم سفر القضاة بحوادث شريرة ومحزنة حدثت أثناء حكم القضاة، يأتي بعده سفر راعوث فيحدثنا عن لمحة من لمحات النعمة حدثت « في أيام حكم القضاة » (را 1: 1).
يأتي بعد ذلك سفرا صموئيل ليكملا لنا ذكر آخر قاضيين (عالي وصموئيل)، وبعدهما يرد ذكر أول ملكين لإسرائيل؛ شاول الذي حسب اختيار الناس، وداود الذي بحسب قلـب الرب. ثم أسفار الملوك والأخبار التي تحدثنا عن تاريخ المملكة حتى سبيها*. وبنفس العبارة التي بها يُختم سفر الأخبار، عبارة الدعوة للعودة من السبي؛ يبدأ سفر عزرا! وبعده سفر نحميا يكمل قصة البقية التي رجعت إلى الأرض.
إذاً فالعهد القديم يحدثنا عن:
التاريخ الباكر : تكوين1 إلى 11: 9
تاريخ البطاركة : تكوين 11: 10 إلى تكوين 50
تاريخ الأمة الإسرائيلية : خروج1 إلى أستير 10
وتاريخ الأمة، الذي يمثل الفكر الأكبر في أسفار العهد القديم، ينقسم كالآتي:
الرحلة (من مصر إلى كنعان) : خروج1 إلى تثنية 34
أرض الموعد : يشوع إلى راعوث
المملكة : 1صموئيل إلى 2 أخبار
السبي : عزرا إلى أستير
ثم إن ما توقفت عنده الأسفار التاريخية أكملته النبوات. وهكذا فإن سفر ملاخي (آخر الأسفار النبوية) يشير إلى مولد يوحنا المعمدان؛ آخر أنبياء العهد القديم، ويشير أيضاً إلى مجيء الرب لهذه البقية، كالعلاج الأخير للحالة التي وصلت إليها البقية الراجعة من السبي.
وهذا ما تم فعلاً إذ جاء ربنا يسوع بعد نحو 400 سنة. وتُقدِم لنا الأناجيل الأربعة قصـة المسيح، من أول بشارة الملاك بميلاد يوحنا المعمدان، ممهد الطريق أمام المسيح، حتى صعود المسيح. ويكمِّل سفر الأعمال القصة حتى انتشار المسيحية إلى أقصى الأرض. وما وقف عنده السرد التاريخي أكملته النبوة، أي سفر الرؤيا وكذا بعض أجزاء في الرسائل حيث نصل إلى الأبدية!
هذا التتابع التاريخي الدقيق في أسفـار الكتاب المقدس لم يعمله شخص معين، ولا كان من صنع إنسان ما، بل نما شيئاً فشيئاً عبر الأجيال حتى برز إلى الوجود بهذا الكمال المعجزي. وشكراً لله فإنه عندما أعطى الأمر تباعاً بكتابة أسفار هذا الكتاب إنما كان متجهاً بفكره إلينا « نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور » (1كو10: 11)، لأننا - دون باقـي القديسين في مختلف التدابير- تمتعنا بهذا "الكتاب" في صورته الكاملة.
2- تقدُم الإعلان مع وحدة الهدف
إن هدف الله الذي نستنتجه من أولى أصحاحات الكتاب المقدس هو إيجاد علاقة له مع الإنسان. ولهذا فقد نفـخ الله فى الإنسان نسمة حياة، ميّزه بها عن باقي المخلوقات حتى يكون مؤهَـلاً للشركة معه. لكن الانسان - بالأسف - استخدم الإرادة الحرة التي أعطاهـا الله له فى عصيان الله، فسقط الإنسان، وانقطعت شركته مع الله، وطُـرِد من الجنة. فهل تحول الله عن هدفه ؟ أبداً؛ فبعد السقـوط مباشرة ظهرت نعمة الله متمثلة في الأقمصة من الجلد التى ألبسها الله لآدم وحواء. وما فقده الإنسان - بالسقوط - من جنة أرضية، عوضته النعمة ما هو أعظـم؛ فلا يُختـم الكتاب المقدس إلا بالسماء الجديدة والأرض الجديدة حيث « مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم » (رؤ21: 3). ولكي يصل الله لهذا الهدف النهائي كان تجسُد المسيح، والصليب (عب2: 9، 10)، وحول هذا الهـدف دارت مشـورات اللاهوت في الأزل (مز40: 5-8)، إذ قَبِلَ المسيح، رجل مشورات الله، أن يتولى بنفسه إتمام هذا الهدف (عب10: 4-10،1بط1: 18-20).
وهكذا فإن ما نجد بذرته ونقـرأ تباشيره في سفر التكوين، نجد تحقيقه في سفر الرؤيا. وبين الفكرة وتحقيقها، رحلة طويلة من فشل الإنسان وعداء الشيطان. لكن مع كل سفـر جديد يزداد الفكر وضوحاً والغرض قرباً. فبعد طرد آدم من الجنة سار الله مع أخنوخ (تك5: 24)، وتكلم إلى نوح (تك6: 13) وظهر لإبراهيم ثم زاره وأكل عنده (تك12، 13، 18)، كما ظهر أيضاً ليعقوب (تك28، 32). لكن عندما نصل إلى سفر الخروج، نجد سكن الله في وسط شعبه؛ أولاً كرغبة أظهرها موسى* ثم صادق الله عليها فى خروج 25.
بعد ذلك في سفر الملـوك تتبدل الخيمة ببيت لسكنى الله، الأمر الذي يحدثنا عن الاستقـرار. وعندما نصل إلى العهد الجديد نجد كيف أن « الكلمة صار جسداً، وحلّ (أى نصب خيمته) بيننا » (يو1: 14). وبعد موته وقيامته وصعوده أرسل الروح القدس ليؤسس هيكلاً ليس مصنوعاً بالأيادي، بل بيتاً روحياً هو "الكنيسة" التي سيسكن الله فيها إلى أبد الآبدين (أف2: 21، 22).
إذاً فيمكن القول إن ما جاء بعد موسى لم يخرج في مضمونه عما أتى به موسى، ولو أنه ازداد وضوحـاً؛ وهو أن الإنسان الخاطئ يحتاج إلى مخلص. ولقد أخـذ النور يزداد عن هذا المخلِّص؛ فهو أولاً « نسل المرأة » (تك3: 15)، ثم من عائلة سـام المبارك (تك9)، ثم من نسل إبراهيم الذي في نسله ستتبارك جميع أمـم الأرض (تك12،22)، ثم عن طريق اسحق ويعقوب، إلى أن تحدد السبط بسبط يهوذا (تك49: 10)، ثم بيت داود (2صم7، مز89)، ثم عذراء من بيت داود (إش7: 14). كما أعطى معلومات عن المدينة التي يولد فيها « بيت لحم »، وكذا وقت ميلاده (مى5: 2، دا9: 24-27).
3- وحدة الموضوع
الموضوع الرئيسي في الكتاب المقدس من أول كلمة فيه إلى آخر كلمة؛ هو المسيح. هذا ما أوضحه الرب يسوع نفسه في يوم القيامة عندما سار مع تلميذي عمواس « ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب » (لو24: 27). الأمر الذي يُظهِر أن كل أسفار الكتاب المقدس، مهما اختلفت في مبناها فإن موضوعها واحد وهو الحديث عن مسيح الله؛ الرب يسوع.
فعن أسفار موسى الخمسة سبق أن قال المسيح له المجد « موسى . . . كتب عنى » (يو5: 46). فهذه الأسفـار مليئة بالإشارات الرمزية عن المسيح ابتداءً من الوعـد الذي سمعه آدم وحواء في الجنة بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية، وباقي الرموز الجميلة عنه وعن عمله العجيب على الصليب (كهابيل وذبيحته تك4، ونوح وفلكه تك 6-8، ثم اسحق وطاعته وزواجه تك22، 24، ويوسف في آلامـه وأمجاده تك 37-50 وغيرها). وكذلك خروف الفصح في سفر الخـروج الذي كان واسطة حماية الشعب من غضب الله (خر12)، ثم انشقاق البحر الأحمر الذي أصبح وسيلة خلاص الشعب من العبودية، وهلاك فرعون وجنوده (خر14 )، وكذا الصخرة التي بضربها تفجرت المياه لتنقذ الشعب من الموت المحقق (خر17 ) ... ثم الذبائح المختلفة فى سفر اللاويين... وهكذا.
أما في الأسفار التاريخية فنجد في شخصية يشوع ثم القضاة ثم الملوك المؤمنين، وكـذلك الأنبياء أو الرؤساء… الخ؛ صوراً رمزية مباركة للمسيح، وفيما عملوا؛ صـوراً مصغرة للخلاص الذي عمله المسيح على الصليب. والقياس مع الفارق، لأن« الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع » (يو3: 31).
لقد صَدَق أحد الشراح عندما قال إن تاريخ إسرائيل هو في نفس الوقت نبوة؛ فكل نصر وتحرير يعطي تصويراً لعمل المسيح، وكل قديس وبطل في الإيمان يشير بشعاع واحد إلى شخصه المجيد، وكل مأساة وكارثة حلت على البشرية تشترك في تلك الصرخـة القوية التي تدعوه للتدخل. فهو بحق روح التاريخ، تماماً كما هو روح الشعر والنبوة.
ثم إذ نصل إلى الأسفـار النبوية نجدها ممتلئة بالنبوات عن المسيح. فنجد فيها نحو 333 نبوة عن أزليته وتجسده وولادته من عذراء وحياة الاتضاع المقترنة بالطاعة لله أبيه، وكذلك عن الصليب بأدق تفاصيله، وعن الدفن والقيامة، كما وعن مجد المسيح وملكه النهائي. فحقاً كما قال الملاك ليوحنا الحبيب في جزيرة بطمس « اسجد لله، فإن شهادة يسوع هي روح النبوة » (رؤ19: 10).
فكأننا نجد الوعـد بالمخلص مع رموز عديدة له في أسفار موسى الخمسة، ممهد لمجيئه في الأسفار التاريخية، يصبو إليه القديسون في الأسفار الشعرية، متوقع ظهوره فيما بيننا في الأسفار النبوية.
لكننا إذ نصل إلى أسفار العهد الجديد نجد الحديث صريحاً ومباشراً عن المسيح. في الأناجيل نجد حياة يسوع فوق الأرض وموته الفدائي. وفي سفر الأعمال نجـد المسيح المرفّع في السماء، الذي لازال يعمل ويخلِّص. وفي الرسائل نجـد الحق الكامل المبارك عنشخص المسيح وعمله، وعن السر العظيم؛ المسيح الـرأس والكنيسة جسده. وسفر الرؤيا يحدثنا عن المسيح في سيادته الحتمية المستقبلة على كل الخليقة.
حسناً قيل "إننا في العهد القديم نرى في أسفار موسى صوراً ورموزاً للمسيح، وفي كتب الأنبياء نبوات عن المسيح، وفي المزامير نستمع إلى مشاعر المسـيح على الأرض. ثم في العهد الجديد إذ نلتقي في الأناجيل بشخصه فعلاً، فإن لنا الحقائـق الخاصة بالمسيح. ثم في الرسائل نجد ثمار المسيح التي ينبغي أن تظهر في تابعيه".
وقال آخـر "ما هي النوته للموسيقى، أو البيضة للمحارة، أو النواة للذرة، أو الماسة للخاتم، أو القلب للجسد، أو الحياة للشجرة، أو الشمس للقمر؛ هكذا المسيح لأسفار الكتاب المقدس".
كأننا - بلغة القديس أغسطينوس - نرى في العهد القديم المسيح؛ موضوع العهد الجـديد، مظللاً. وفي العهد الجديد نرى المسيح، موضوع العهد القديم، معلناً. فالعهد القديم كله يشير متقدماً إلى الشخص الذي سيأتي، والعهد الجديد يشير راجعاً إلى الشخص الذي أتى. العهد القديم هو مثل المساء مهوب بقمره وكواكبه. أما الصباح؛ العهد الجديد، فمجيد بشمسه. وكما أن المساء والصباح يوم واحد (تك1: 5)، هكذا العهد القديم والعهد الجديد كتاب واحد.
4- تناسق المحتويات
في تكوين 1: 1 نقرأ عن خلق الله للسموات والأرض في البدء.
ثم ابتداء من عدد 2 يركز الوحي أنظارنا على كوكب الأرض.
ثم في اليوم الثالث (تك 1: 9) يحصر النظر على اليابسة.
وفي اليوم السادس (تك 1: 26) على الجنس البشري الذي يعيش فوق اليابسة.
وبعد ذلك اعتباراً من تكوين 12 فصاعداً يضيق النظرة علي أمة واحدة فقط هي موضوع أسفار العهد القديم.
وإذ نصـل إلى العهد الجديد نجده يركز الضوء كله على شخص واحد جاء من هذا الشعـب بحسب الجسد، هو ربنا يسوع المسيح .. لكن بعد ذلك، ومن الرب يسوع كنقطة بداءة جديدة، يتسع الإعلان الإلهي من جديد بواسطة رسل المسيح ابتداءً من أورشليم إلى اليهودية، ثم السامرة، ثم تنتقل بشارة الإنجيل إلى العالم أجمع. وفي المستقبل ستمتلئ الأرض كلها من معرفة الرب (حب 2: 14). وأخيراً تجيء السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ21: 1).