أسماء الله في الكتاب
إن ما يميز أعمال الله عن أعمال البشـر، أن الأخيرة عند فحصها بتدقيق تظهر عيوبها ومساوئها، بينما الأولى متى وُضعت تحت الفحص الدقيق ظهرت روعتها ودقتها. فمثلاً إذا وضعت زهرة تحت المجهر، يبرز لك من دقة تكوينها وجمال خلقها ما لم تكن تراه من قبل. ثم إذا وضعت تحت المجهر جسم معدني مشغول فسيبرز لك في الحال تشوهات وخدوش كثيرة لم تكن لتلحظها بالعين المجردة.
لقد شن أصحاب النقد الأعلى (انظر الفصل التاسع) هجومهم على كلمة الله ووحدة أسفارها نظراً لوجود أكثر من اسم لله بها. هذا قاد بعضاً من رجال الله لأن يدرسوا الأمر بعناية. ولأن الكتاب المقدس هو بالفعـل كتاب الله، فلقد ظهر في الحال عظمة وكمال الوحي في نفس الأمر الذي أعثر الكافرين، وظهرت الحكمة الإلهية العالية التي ساقت كتبة الوحي جميعاً فى اختيار اسم الله بحسب الفكر الذي يقدمونه.
فمثلاً اسم الجلالة « إيلوهيم » بالعبري؛ والمترجم بالعربية "الله"، يحدثنا عن طبيعة الله، عن مطلق لاهوته، عنه كالخالق وعلاقته مع الخليقة والإنسان بصفة عامة. وأما الاسم "يهوة" المترجم بالعربية "الرب"، فهو اسمه في علاقته الخصوصية مع الإنسان، اسم العهـد مع شعبه في العهـد القديم. هذا الأمر صحيح بالنسبة لكل أسفار الكتاب المقـدس المتقدمة منها والمتأخرة، سواء في العهد القديم أو العهد الجديد.
ولنأخذ مجرد أمثلة بسيطة لتوضيح هذا الأمر الواسع الشيق. ففي الفصل الأول من سفر التكوين نجد الاسـم إيلوهيم، ويتكرر هذا الاسم هناك 35 مرة، ولا نجد اسماً لله سواه، لأننا نراه هناك كالخالق العظيم. أما في الفصل الثاني فلا يُذكَر هذا الاسم على الإطلاق، بل يذكر اسم « يهوة إيلوهيم » أي الرب الإله، لأن في هذا الفصـل نجد الله يدخل في علاقة مع الإنسان. وهذا عين ما نراه أيضاً في تكوين 3. إلا أن الشيطـان في تجربته للمرأة يقول « أحقاً قال الله؟» مع أن الذي كلم الإنسان هو الرب الإله (أنظر تك 2: 16). فالشيطان لا يريد لفت نظر الإنسان إلى علاقة الله الخاصة معه، ويسعى جاهداً لإنكارها وإفسادها. وبالأسف سـارت المرأة وراء الشيطان في ردها عليه، إذ قالت له « من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه». وبتجاهل المحبة الخاصة التي في قلب الله نحو الإنسان، سقط الإنسان!!
لننتقل إلى حادثة الطوفان (تك 6-8) فنجد أنه يرد كلا الاسمين (الله والرب)؛ لكن حينما ترد علاقة الخالق مع الخليقة يذكر "الله" وعندما يتحدث عن عهده - تبارك اسمـه - مع الإنسان يذكر "الرب". وهناك آية تجمع الاسمين معا تبرز هذه الفكـرة ؛ فالحيوانات دخلت الفلك بناء على أمر الله، لكن الرب هو الذي أغلق على نوح (تك 7: 16).
لنتحـول الآن إلى الأسفار التاريخية، فمثلاً في قضاة 7 نسمع حلماً فسره رجل مدياني بالقـول « دفع الله إلى يد (جدعون)…الخ » - لكن جدعون عندما أبلغ الأمر إلى بني إسرائيل قال « الرب قد دفع إلي يدكم جيش المديانيين » (ع14،15)!
نفس هذه الدقة العجيبة نجدها في 1صموئيل17: 46،47 فى حرب داود مع جليات، عندما قال له داود « هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك . . . فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل (هنا يرد اسم الله عند الحديث عن شعوب الأرض) وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب (هنا يرد اسم الرب بالارتباط بجماعة إسرائيل)».
بل في آية واحدة بصدد دفاع الرب عن الملك يهوشافاط نجد الاسمين معاً بنفس المدلـول السابق؛ الرب فى علاقته مع الملك التقي، والله فى علاقته مع البشر بصفة عامة « فلما رأى رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا إنه ملك إسرائيل فحاوطوه للقتال، فصرخ يهوشافاط، وساعده الرب، وحولهم الله عنه » (2أخ18: 31)!!
لكن لننتقل الآن إلى الأسفار الشعرية. نجد مثلاً أن سفر الأمثال، وموضوعه سلوك الشعب على الأرض على ضوء أحكامه تعالى، لا يذكر فيه سوى اسم "الرب" (باستثناء 25: 2)، بينما سفـر الجامعـة الذي كتبه نفس الكاتب، وهو سليمان، لا يُذكر فيه سوى اسم "الله"، لأنه يحدثنا عن موقف الإنسان الطبيعي بالنسبة لكل ما هو تحت الشمس، أي خليقة الله.
ثم لنلقى نظرة أخيرة على أحد الأمثلة الجميلة في الأسفار النبوية. فيرد في سفر يونان الاسمان، ولكن ليس بطريقة عشوائية. ففي الأصحاح الأول نجد اسم الرب، حتى النوتية الذين صرخوا في بادئ الأمـر إلى آلهتهم الوهمية دون جدوى قد قادهم الرب إلى معرفة شخصه بواسطة يونان « لأنه أخبرهم » فصلوا إلى الرب، وخافوا من الرب، وذبحوا له ذبيحة.
وفي أصحاح 2 لازلنا نقرأ عن الرب؛ فيونان يصلي إليه والرب يخلصه، ويطلب منه أن يذهب إلى نينوى وينادي لها.
عندئذ (أصحاح 3) نقرأ عن "الله". فإن كرازة يونان التى لم تكن إلا تلويحاً بغضب الله قادت أهل نينوى، المدينة "العظيمة لله" إلى أن يؤمنوا "بالله". لقد عرف الله (رو 1: 19، 21) أولئـك الذين كانوا "بـلا إلـه". وأخذوا مركز المذنبين التائبين إلى الله!!
لم ينته الأمر عند هذا، بل إن توبة أهل نينوى وعدم توقيع الله القضاء عليهم أغاظ يونان فصلى إلى الرب طالباً الموت - إنه لا زال، رغم ضعف مستواه الروحي، نبياً للرب، ولم ينحدر إلى مستوى مجرد إنسان في علاقته بالله. وهنا يظهر اسم جديد في المشهد؛ إنه « الرب الإله » (4: 6)، فليس مجرد "الله"، وليس فقط "الرب"، بل الاثنين معاً؛ طبيعتـه وعلاقته الخاصة. فكان يمكن أن يقال إن الله أعد يقطينة، لكن كان ينبغي أن يقال إن "الرب الإله" أعد يقطينة لتكون ظلاً على رأس يونان، لكي يخلصه من غمه!!
ثم نجد بعد ذلك أن الله أعد دودة، والله أعد ريحاً شرقية - الله باعتباره الخالق يتصرف، وكصاحب الخليقة يناقش يونان. لكنه يختم السفر بحديث، لا من الله، بل من الرب مع يونان!!!
التباين مع التوافق!
يعتقد البعض أن تكوُّن الكتـاب المقدس من مجموعة كتابات لأشخاص عديدين يُنقِص من قيمته، بل ويلاشي صفته ككتاب إلهي. لكن الشخص المفكر عندما يتأمل في الذين كتبوا هذا الكتاب، وفي ظروفهم المتباينة، مبتدِأً من موسى الذي تهذب بكل حكمة المصريين، ومنتهياً بيوحنا صياد السمك في بحر الجليل، والذي كان عديم العلم وعامياً، فإنه يأخذه العجب حقاً.
لقد كتب موسى أسفاراً خمسة هي أولى أسفار الكتاب، كما كتب يوحنا أيضاً أسفـاراً خمسة هي آخر أسفار الكتاب. أما موسى فكتب أسفاره في التيه في سيناء وهو محاط برمال البرية، ويوحنا كتب آخر أسفاره الخمسة (سفر الرؤيا) وهو منفي في جزيـرة بطمس محاطاً بمياه البحر. وبين أول وآخر من كتب مرت نحو 1600 سنة، أي نحو أربعين جيلاً، فيها قام نحو أربعين كاتباً بكتابة أسفـار الكتاب المقدس؛ بعضهم كتب وهو في بلاط القصر في بابل، والبعض وهو بين المسبيين عند نهر خابور، والبعض الآخر في سجون روما الضيقة المظلمة!
ثم لاحِظ، لا تنـوع الظروف فقط، بل تنوع الأشخاص أيضاً. فلقد كان بين من كتب: المتعلم كلوقـا الطبيب والأمي كعـاموس جاني الجميز، الفيلسوف كبولس والشاعر كداود، القائـد العسكري كيشوع والكاتب الديني كعزرا. كان فيهم العظمـاء؛ ملك ورئيس وزراء كسليمان ودانيآل، كما كان فيهم البسطاء؛ عشار ونجار كمتى ويعقوب.
ثم لاحظ أيضاً تنوع شكل الكتابة، لقد كتبوا عن أمور شتى بحسب الظاهر؛ فواحد كتب تشريعاً، والآخر كتب تاريخاً، واحد كتب شعراً وآخر كتب قصة، وثالث كتب رسالة. ومع ذلك فإننا لا نجد فيه تضاربـاً أو تشويشاً، بل برغم التنوع والتباين الشكلي نجد في كل هذه الكتابات هدفاً إلهياً واحداً، وفكراً إلهياً متجانساً، وموضوعـاً إلهيـاً معزياً، وخيطاً فضياً يربط صفحات الكتاب من الأول إلى الآخر.
سيكون لنا في الفصل القادم عودة إلى الحديث عن وحدة أسفار الكتاب المقدس، لكننا الآن نريد لفت النظر إلى عدم وجود أدني تضارب أو تناقض بين أجزائه المختلفة. فإن بعضاً من الذين يأخذون الأمور بسطحية يحسبون أن هناك تعارضاً صارخاً بين العهدين القديم والجديد أو بالأحرى بين الناموس بطقوسه وأحكامه وبين النعمة بسموهـا وتسامحهـا، وأن ما بناه الأول قد هدمه الثاني. لكن فـات أصحابنا هؤلاء أن الناموس كان « مؤدبنا إلي المسيح » (غل3: 24)، وكان قصد الله منه تشويق الإنسان لقبول علاج الله في المسيح لمشكلة الخطية بواسطة إشعاره بمقدار قداسة الله ومقدار نجاسة الإنسان ومذنوبيته، وعدم إمكان تسكين غضب الله إلا علي أساس الذبيحة!
لكن أي ذبيحة ؟ - قد يظن البعض أنه هنا يبرز التعارض. فالعهد القديم يطلب الذبائح الحيوانية، والعهد الجديد يؤكد عجزها عن إيفاء مطالب الله. لكن الأمر ليس كذلك لأن داود في العهد القديم قال « لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا ترضى » (مز51: 16). ومرة أخرى « بذبيحة وتقدمة لم تسر. أذنيّ فتحت. محرقة وذبيحة خطية لم تطلب. حينئذ قلت هانذا جئت؛ بدرج الكتاب مكتـوب عنى » (مز40: 6،7 أنظر أيضاً 1صم15: 22، مى6:6-8) فالذبائح الحيوانية ما كانت إلا رمزاً للذبيحة الكاملة، ذبيحة المسيح.
خذ مثلاً آخـر؛ فلقد كان مكان سُكنـى الله فى العهد القديم هو الهيكل الأرضي. الأمر الذي يتعارض مع مفهوم العهد الجديد. فهل هناك تعارض حقيقي؟ كلا البتة - فمرة أخـرى كان الله يُعلِّم المؤمنين الأبجدية لا الكلمات. فكما أراد أن يعلمهم أهمية الذبيحة، أراد أن يعلمهم هنا محبته من نحو الإنسان، والقداسـة التابعة لسكناه معهم. لكن سليمـان شعر يوم تدشين الهيكل بأن الله أعظم من أن يحده هيكل، ولو كان بيتاً من ذهب « لأنه هل يسكن الله حقاً على الأرض؟! هوذا السموات وسماء السموات لا تسعك فكم بالأقل هذا البيت الذى بنيت » (1مل 27:8) وهذا عين ما قاله إشعياء وغيره أيضاً (إش57: 15، 66: 1،2 أنظر أيضا أع17 :24،25).
كانت فريضة الختان مسألة جوهرية في العهد القديم، ولم تعد كذلك في العهد الجديد (غل6: 15)، فهـل غيَّر الله كلامه؟ مطلقاً، فحتى في العهد القديم أفهم الله شعبه أن غرضه الروحي من ذلك عدم نفع الجسد، الأمر الذي يبينه العهد الجديد بأكثر وضوح (تث10: 16، 30: 6 مع رو2: 25،28، 29، كو2: 11، 13، . . . الخ).
نقول أيضاً هـل كانت نعمة الله في العهد القديم أقل مما هي الآن؟ وهل كانت قاصرة علي اليهود دون سواهم؟ دعنا نتذكر أن إعطاء الناموس للمرة الثانية للشعب لم يكـن يخلو من النعمة (خر32-34). ثم دعنا نتذكر كيف تخطت نعمة الله حدود اليهود في العهد القديم؛ ولعل سفري راعوث ويونان من أبرز الأمثلة على ذلك. ليس معني ذلك أننا ننكر أن النعمة المذكورة في العهد الجديد لا يوجـد ما يماثلها في العهد القديم، لكن هذا ليس مرجعه التعارض، بل أن الله كان ينتظـر عمل المسيح علي الصليب لكي يعلن هذه النعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الدهرية (2تي 1: 9،10، 1تي2: 4-7).
ومن الناحية الأخرى هل غضب الله وقضاؤه المعلن في العهد الجديد أخف وطـأة مما هو معلن في العهد القديم؟ الجواب ولا هذا أيضاً، فإنه لم يظهر إطلاقاً، كما ظهـر في الصليب، كراهية الله للخطية ودينونته عليها. والله الآن، مع أنه متمهل في إجراء الدينونة، لكنه لم يهمل أن يذكرها كالوجه الآخر من الإنجيل بالنسبة لأولئك الذين يرفضون الإنجيل. فهو يقول « لأنه هكذا أحب الله العالـم حتى بذل ابنه الوحيد » ثم يضيف بعدها مباشرة « لكي لا يهلك كل من يؤمن بـه » (يو3: 16)، فالهلاك نصيب كل من لا يؤمن بالمسيح. « فكم عقاباً أشـرّ ( أشر من الموت تحت لعنة الناموس) تظنون أنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدِس به دنساً وازدرى بروح النعمة» (عب10: 29).