المتناهية فى عملية النسخكان يقوم بهذا العمل جماعة متخصصة فى ذلك اسمها الكتبة. وكان الرابي (أى معلم الشريعة) يوصي النساخ الشباب قائلاً : احرصوا أشد الحرص فى عملكم الذى تعملونه، فهو عمل السماء، لئلا تُسقِطوا حرفاً، أو تضيفوا حرفاً فى نسختكم فتتسببوا فى هلاك العالم.
وكان يقال لهم: عندما تشرع فى النسخ، لو دخل عليك ملك إلى حجرتك وتحدث إليك، تجاهله تماماً لئلا تخطئ فى الكتابة.
وكان يُقال أيضاً: قبل أن تكتب كلمة واحدة من كتاب الله، عليك أن تغسل جسدك وتلبس الثياب العبرانية، وتجهز نفسك بالأفكـار الخشوعية. ومع أنك تعرف بل تحفظ كتاب الوحى عن ظهر القلب، فلا تكتب كلمـة واحدة من ذاكرتك. ارفع عينيك إلى نسختك، والفظ الكلمة بصوت عالٍ قبل أن تخطها. وقبل أن تكتب لقباً من الألقـاب الإلهية، عليك أن تغسل قلمك. وقبل أن تكتب اسم الإله الأعظم "يهوه" يجب أن تغسل جسدك كله.
وبعد الانتهاء من النسخ ومراجعتـها، كان إذا وجد فى أية صفحة غلطة واحدة تعدم تلك الصفحة. أما إذا وُجد فى أية صفحـة ثلاث غلطات فكان عليه أن يعدم النسخة كلها.
ويقول العلامة وستكوت إنه نتيجة هذه التعليمـات الحازمة فإن الأخطـاء فى عملية نسخ العهد القديم كانت نادرة فعلاً، بمعدل حرف واحد من كل 1580 حرفاً. ومعظمها في عدد قليل من النسخ أو أحياناً في نسخـة واحدة فقط، الأمر الذي يجعل اكتشاف الخطأ سهلاً وميسوراً جداً. كما يذكر أنه ولا خطأ واحد من هذه الأخطاء يؤثر على أى تعليم من التعاليم الأساسية فى العهد القديم.
والكتاب المقدس نفسه يشهد عن غيرة اليهود في الاحتفاظ بالأسفار المقدسة التي عندهم. ومع أن العهد القديم أشار إلى خطايا بلا حصـر لهذا الشعب، لكنه لم يُشِر قط فى أى جزء من الكتاب أن اليهود حاولوا تزييف كلمة الله التى بين أيديهم، بل بالعكس فعندما سأل الرسول بولس ما هو فضل اليهودى أو ما هو نفع الختان؟ أجاب « كثير علي كل وجه. أما أولاً (أي في المقام الأول) فلأنهم استؤمنوا علي أقوال الله*» (رو3: 1، 2).
وتتفق أقوال ثقاة المؤرخين فى الإشادة بغيرة اليهود فى هذا الأمر فذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير على ذلك بالقول "إنه لم يجرؤ أحد علي أن يزيد علي أسفار (العهد القديم) أو ينقص منها حرفاً واحداً عبر الأجيال، ولم يطرأ عليها أي تبديل مهما كان طفيفـاً منذ أن وُجد إلي يومنا هذا". كما قال العلامة باسكال أيضاً "إنه لا يوجد إخلاص بين كل الأمم نظير الإخلاص الذي عند اليهود في المحافظة علي الأسفار الإلهية. هذا الإخلاص نفسه ليس أصله من الطبيعة بل مصدر فائق للطبيعة". أما فيليو السكندرى فقد قال "إن اليهودى يفضل أن يموت عشرة آلاف مرة عن أن يسمح لكلمة واحدة أن تتبدل فى التوراة".
جماعة الماسوريين: كان لهذه الجماعة الفضل الكبير فى نقاوة المخطوطات من الأخطاء. فابتداء من القرن السادس الميلادي انتقلت مهمة نسخ أسفار التوراة من جماعة الكتبة إلى جماعة عرفت باسم الماسوريين. وهؤلاء اهتمـوا لمدة حوالي خمسمائة سنة بنقل المخطوطات بكل أمانة ودقـة. ويقال إن اسم الماسورين مشتق من فعل عبري يعني "يُسلِّم إلى". فهم الذين سلموا النص من جيل إلى جيل. ويعرف هذا النص العبري القديم باسم النص الماسوري. ولقد ثبت من اكتشاف قمران - الذى سنتحدث عنه فى الفصل القادم - مقـدار الدقة التى كانت لهذه الجماعة فى نقاء المخطوطات من أية أخطاء.
تجميع الكتاب
ذكرنا قبلاً إن الكتاب لم يهبط من السماء دفعـة واحدة، بل نمـا شيئاً فشيئاً. ولم يكن جمع الكتاب، بشكله الحالى، من عمل إنسان ما. وموسى بعد أن أكمل كتابة كلمات التوراة فى كتاب إلى تمامها، أمـر اللاويين حاملى تابـوت عهد الرب قائلاً: « خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم » (تث31: 24-26). لقد وُضِعت التوراة فى أقدس مكان فى العالم فى ذلك الوقت. ثم لما أكمل أسفاره الخمسة، حرّض موسى الشعب أن يحرصوا للعمل بجميع كلمات هذه التوراة (تث32: 46). ومن فاتحة سفـر يشوع نفهم أن ما كتبه موسى قبل ذلك بفترة وجيزة كان مقبولاً وقتها باعتباره كلام الرب نفسه.
ثم كان كلما أعطي الله وحياً جديداً يُضاف جنباً إلي جنب مع أسفار موسى، ويُعترَف به من كل شعب الله. وهكذا فإن سفر صموئيل يشير إلى سفر القضاة (1صم 12: 9-11 مع قض4، 10،..)، وسفر المزامير يشير إلى سفر صموئيل (انظر مز78: 61-66 مع 1صم 4،5)، وهكذا.
فى نبوة إشعياء نقرأ فى مطلع نبوته قول إشعياء للشعب « إلى الشريعة وإلى الشهادة » (إش8: 20) معترفاً بالأسفـار المقدسة التى كانت فى زمانه. كما نجد أن ميخا الذي كتب نبوته بعد إشعياء بسنوات قليلة يقتبس منه (إش2: 2-4، مي4: 1-3)، كما نجد أن إرميا يشيرإلى نبوة ميخا (إر26: 18 مع مي 3: 12)، ودانيآل يشير إلي نبوة إرميا التي كتبت قبله بفترة وجيزة (دا9: 2، أر25: 8-12، 29: 10-14). وهكذا فعل زكريا مع الأنبياء السابقين ونبواتهم (زك1: 1-6).
بهذا الأسلوب أخذ كتاب الله ينمو شيئاً فشيئاً. وأخيراً كما أوحي الله لأوانى الوحى بكتابة الأسفار فإنه أصدر الأمر لعزرا الكاتب، بعد الرجوع من السبي، بجمع هذه الأسفار معاً في كتاب واحد، عرف بين اليهود الذين استأمنهم الله على أقواله (رو3: 1،2) باسم « الكتاب ».
نفس الأمر حدث بالنسبة لأسفار العهد الجديد. فنحن نجد أن بولس في رسالته الأولي إلي تيموثاوس، والتي كتبت نحو عام 66م، يقتبس من إنجيل لوقا (1تي5: 18، لو10: 7) مما يبرهن علي أن هذا الإنجيل كان مقبولاً من جموع المسيحيين وقتها علي أنه جزء من « الكتاب ». وبالمثل نجد بطرس في رسالته الثانية، والتي كتبت نحو عام 66م أيضاً، يشير إلي رسائل بولس، مما يبرهن علي أنها كانت في ذلك الوقت معتبرة من الجميع أنها وحـي الله وجزء من كلمته المقدسة (2بط3: 15، 16). لأن كلمة «الكتب» المستخدمة في هذه الآية هي نفسها بحسب الأصل اليوناني التي ذكرها بولس في 2تيموثاوس3: 16.
ولقد بذل المؤمنون في العصر الأول عناية خاصة للتمييزيين أسفار الوحي وغيرها من الكتابات (انظر1يو4: 1، 2، 6، رؤ2: 2، 2تس3: 17)، ولم يقبلوا شيئاً إلا بعد التحري الدقيق. ولقد ضمن الرب لأولئك المؤمنين لا وصول الوحى إليهم فقط، ولا حتى استنارة المؤمن الفرد فحسب، بل أيضا تمييز جموع المؤمنين، واتفاقهم جميعاً معاً من جهة وحى الأسفار. فالرب عندما يتكلم يتكلم بسلطان، والراعى عندما يتكلم فإن الخراف تميز صوته عن صوت الغريب (يو10: 4،5). كما يقول الرسول يوحنا عن الأولاد إن لهم مسحـة من القـدوس، ويعلمون كل شئ (1يو2: 20، 27).
ولقد صار اعتماد هذه الأسفار بأنها وحي الله في نهاية العصر الرسولي. ويرى البعض أن الله قد أطال عمـر يوحنـا الرسول (نحو المائة سنة) لهذا الغرض السامي؛ وهو أن يسجل بنفسه اللمسـات الأخيرة من الكتاب المقدس ويسلم من تسموا فيما بعد "آباء الكنيسة" هذا الكتـاب ليصـل إلينا بقدرة الله الحافظة رغم كل المقاومات كما سنري في الفصل التاسع.
تقرير قانونية الأسفار
القانونية في عبارة "الأسفار القانونية" مستمدة من كلمة يونانية تعنى مسطرة قياس. مما يدل على أنه كانت هناك شروط معينة سواء عند اليهود فى العهد القديم أو الكنيسة فى العهد الجديد لقبول أى سفر إلى جملة الأسفار القانونية؛ فلقد أعطى الله لشعب إسرائيل قديماً، وللكنيسة الأولى بعد ذلك القدرة على التمييز بين ما هو من الله، وبين ما هو من اختراع وتأليف البشر. ليس أن مجمـع اليهود قديماً أو الكنيسة في العهد الجديد هى التى اختارت الأسفار، بل إنها فقط ميزتها وعرفتها، وإذ ذاك فإنها قبلتها بكل توقير.
إذاً فتقدير قانونية الأسفار جاء نتيجة وحيها وليس بقرار بشرى أو استحسان إنساني. إن كتابات الرسل - كما رأينا - قُبِلت من الكنيسة فى البداية وقـت أن كان الرسل لا زالوا موجودين. ثم عندما جاء دور تقرير قانونية الأسفار، فإن الكنيسة لم تقرر ما تقبله وما ترفضه، بل إنها انحنت فى تقدير واعتبار لما كان فعلاً بين أيديها.
فمثلاً لا نقرأ إطلاقاً أن الكنيسة اجتمعت لكى تقرر كم إنجيل يلزمها أو يكفيها، بل إذ كان بين أيدى القديسين أربعة أناجيل، بالإضافة إلى سفر الأعمال والرسائل وسفر الرؤيا، مزودة بسلطان الرسل والأنبياء، وداخلياً بشهادة الروح القدس، فقد ضُمت هذه إلى جملة الأسفار القانونية.
الكنيسة إذاً ليست هي مخترعة القانونية بل مكتشفة لها، ليست مهيمنـة عليها بل تابعة لها، ليست قاضية عليها بل شاهدة لها، ليست سيدة عليها بل خادمة لها.
ومع أن الإقرار الرسمي بما يسمى الأسفار القانونية للعهد الجديد قد تم في القرن الرابع الميلادي، وسنوضح الغرض من هذا حالاً؛ إلا أن كتابات الآباء الأولين فى القرون الثلاثة السابقة لتقرير تلك القانونية تؤكد لنا أن هذا ما كان بالفعل مقبولاً من جموع المؤمنين من قبل ذلك. فمثلا نجد تورتليان (نحو عام 200م) الذى كان أول من استخدم تعبير العهد الجديد لتمييزه عن أسفار العهد القديم، قد أعطى نفس تقدير الوحى لكل من الكتاب المسيحى والكتاب اليهودى عندما قال: "ما أسعد الكنيسة، فهى لديها مجموعة أسفار الناموس والأنبياء مع كتابات البشيرين والرسل". ثم قال: "ويل لمن يضيف أى جزء إلى المكتوب أو يحذف أى جزء منه".
بل وقبله أيضاً لدينا كلمات جوستين الملقب بالشهيد، والذي قُطِعت رأسه في روما عام 165 الذي قال: "كما صدّق إبراهيم صوت الله وحُسِب له ذلك براً، هكذا أيضاً يؤمن المسيحيون بصوت الله الذي وُجِه إليهم مرة أخري بواسطة رسل المسيح ونودي به بالأنبياء، الذين كتاباتهم تُقرأ كل أحد في الاجتماعات العامة".
لكن لماذا فكرت الكنيسة فى أن تتبنى هذه المسألـة؟ وما الذى دفعها إلى عمل كهذا؟ الواقع أنه كانت هناك جملة أسباب أضيفت إلى بعضها وأدت إلى هذا الأمر:
يذكر جوش ماكدويل في كتابه برهان يتطلب قراراً
1- أن ماركيون الهرطوقى (حوالى عام 140) كوّن أسفاراً قانونية من عنده وأخذ ينشرها، فكان لزاماً على الكنيسة أن توقف تأثيره المدمر بتحديد الأسفار القانونية الحقيقية لأسفار العهد الجديد.
2- بعض الكنائس استخدمت كتباً إضافية فى العبادة، وهذا أيضاً استلـزم تحديد الأسفار القانونية.
3- منشور دقلديانوس القاضى بتدمير الكتب المقدسة للمسيحيين (عام 303م)، فكان لزاماً على المسيحيين أن يعرفوا أى الكتب هى التى يستحق أن يستشهدوا فى سبيلها باعتبارها وحى الله لا مجرد كتب تفسيرية أو تاريخية.
وفى أواخر القرن الرابع عقد مجمع هبو سنة 393 وأقر قانونية الأسفار المقدسة، ثم تلاه مجمع آخر في قرطاجة (فى تونس) عام 397. ومن ذلك التاريخ ما عادت تناقش مسألة قانونية أسفار العهد الجديد. وباستثناء ثيودور موبسيدستيا (الذى أدين فى المجمع المسكونى الخامـس فى القسطنطينية سنة 553) لا يوجد مرجع واحد ممن يسمون بآباء الكنيسة طوال القرون الثمانية الأولى فى المسيحية إلا واعترف بقانونية الأسفار المقدسة، إلا طبعاً أصحاب الهرطقات وأعداء المسيحية. وبالنسبة لرجال الإصلاح فإنهم رغم اختلافهم فى العديد من المسائل الفرعية، إلا أنهم جميعا فى هذه النقطـة كان لهم الإيمـان الواحد وكان شعارهم العظيم: "الكتاب وحده، والكتاب كله".
أما بالنسبة للعهد القديم فكان المجمع الأخير الذى انتهى بتقريـر قانونية أسفاره هو مؤتمر جامنيا الذى عُقِد فى بلدة جامنيا القريبة من يافـا سنة 90 ميلادية وانتهى المجمع بالاعتراف بكل الأسفار المعروفة اليوم بأنها أسفار الوحي.
أما إذا سأل واحد اليوم: "كيف يمكنني أنا أن أعرف أسفار الوحي وأن أميز بين تلك الأسفار والتي هى بخلاف ذلك؟" فهو تماماً مثل السؤال كيف أميز بين الأبيض والأسود، أو بين الحلو والمر. فحقاً ما أبعد الفارق بين كلام الله وبين كلام الناس! في هذا قال عالم الكيمياء الإنجليزي الفذ روبرت بويل: "مثل الكتاب المقدس بين الكتب مثل الماس بين الحجارة، أثمنها وأشدها لمعانـاً، وأكثرهـا فعلاً في نشر النور، وأقواها وأصحها في التأثير".
قال الرب على فم إرميا النبي « ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟ أليست كلمتي هكذا كنار؟ وكمطرقة تحطم الصخر؟