هذه هى الخطوات الثلاث لوصول أفكار الله إلى الإنسان. إنها تشمل المنبع والمجرى والمصب. والكل من عمل روح الله.
وواضح أننا اليوم لسنا في زمن الإعلان أو الوحي، لكننا لا زلنا نحتاج إلى استنارة من روح الله القدوس لنفهم المكتوب (مز119: 18).
الخطوات الثلاث من فكر الله إلى قلب المؤمن
نظريات الوحي
حاول اللاهوتيون تفسير الوحي ، وقدموا لذلك نظريات متعددة، نذكر منها:
1- النظرية الطبيعية: فاعتبر البعض أن الوحي هو إلهام طبيعي كذلك الإلهام الذي يصاحب الشعراء والأدباء فى كتابة قصائدهم وأعمالهم الفنية.
لكن هذه النظـرية مرفوضة لأنها تتجاهل العنصر الإلهي الذي يؤكده الكتاب المقدس عندما يقول « تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس » (2بط1: 21).
2- النظرية الميكانيكية أو الإملائية: وفيها قالوا إن الله قام بإمـلاء كتبة الوحي ما كتبوا، تماماً كما لو كان يحرك آلة كاتبة أو إنساناً آلياً.
هذه النظريـة على عكس النظرية السابقة تتجاهل العنصر البشرى، ولا يوجد أدنى سند لهذه النظرية في الكتاب المقدس، بل على العكـس إن لنا العديد من الأدلة على أن شخصية الكاتب ومشاعره ظاهرة فيما كتب (انظر رو9: 1-5). فكتابات الأنبياء والرسل تحمل طابع زمانهم وظروفهم واختباراتهم. لقد أحس إشعياء بالرهبة المقدسة وهو يحدثنا عن الرؤيا المسجلة فى أصحاح 6 من نبوته، كما وغمر إرميا في الأحزان الكثيفة وهو يكتب مراثيه، وامتلأ قلب داود بالفرح وبالعرفان وهو يكتب مزاميره الشهيرة مثل مزمور23، 103،...الخ
إننا نوافق تماما الكاتب الألماني "إريش ساور" الذي قال حاشا أن نقول إن الله ألغى شخصية كتبة الوحي فيما كتبوا، فهذا الأسلوب من الوحي لا يليق بالله مطلقا. إننا نجد مثل هذا الأسلوب فى الوثنيات والعبادات الشيطانية التي فيها تُفقِد الأرواح الشريرة الإنسـان شخصيته (انظر 1كو12: 2، مر5: 1-9). أما الإعلان الإلهي فإنه لا يلغى شخصية أواني الوحي، إذ أن أحد أهداف الإعلان الإلهي هو وجود شركة بين روح الإنسان وروح الله، فالله لا يسر بأن يشغل آلة ميتة، بل إنساناً ذا مشاعر، لا مجرد عبد بل صديق.
ولهذا فإننا نرفض أيضا نظرية الوحي الإملائي أو الميكانيكي.
3- النظرية الموضوعية: بمعنى أن الله أوحى لأواني الوحي بالفكرة فقط، دون العبارات نفسها، إذ ترك لكل كاتب أن يختار العبارات التي تروق له دون تدخل من جانبه. ولعل الذين اقترحوا هذه النظرية أرادوا بها تفـادى أية تناقضـات في الكتاب المقدس لا يعرفون حلها، أو أى عدم دقـة تاريخية أو علمية مزعومة.
لكننا أيضـاً نرفض هذه النظرية إذ أن الكتاب ينقضها. فكما أشرنا فيما سبق هناك فارق بين الإعلان والوحي، الإعلان كان للفكرة، لكن لئلا يعجز كتبة الوحي عن توصيل أفكار الله بكل دقة، فإن الله لم يتركهم يختارون العبارات. هذا ما أكده الرسول بولس عندما قال « لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما (مشيراً إلى الأقوال) يعلمه الروح القدس » (1كو2: 13). وأيضاً قوله عن اليهود إنهم « استؤمنوا (لا على أفكار الله، بل) على أقوال الله » (رو3: 2). وأيضاً ما قاله استفانوس عن موسى إنه « قبل من الله أقوالاً حية ليعطينـا إياها » (أع7: 38). وداود يقول « روح الرب تكلم بي، وكلمته (وليس أفكاره) على لساني » (2صم23: 2)
إننا نتفق مع المصلح الشهير لوثر الذي قال: لم يقل المسيح عن أفكاره إنها روح وحياة، بل « الكلام (أو بالحري ذات الألفاظ) الذي أكلمكم به هو روح وحياة » (يو6: 63).
4- النظرية الجزئية: وتعنى أن هناك أجزاء فى الكتاب المقدس موحى بها، وأخرى غير موحى بها. ولكي ما يثبت أحد اللاهوتيين هذه النظرية، فإنه فسر الآية الواردة في فاتحـة الرسالة إلى العبرانيين « الله … كلم الآباء قديماً بأنواع (وفى حاشية الكتاب بأجزاء أو جزئياً) وطرق كثيرة »، والمقصـود من هذه الآية أن إعـلانات العهد القديم المتنوعة والكثيرة لم تكن كاملة، وكانت تنتظر الكمال في تجسد الكلمة، ومجيء الابن الحبيب بالجسد، لكن هذا اللاهوتي فسرها بأن ليس كل الكتـاب على نفس الدرجة من الوحي والعصمة؛ فنوع من الكلام هو وحي كامـل، والبعض الآخر وحي جزئي، وأجزاء ثالثة ليست وحياً على الإطلاق. لكن هذا اللاهوتي ارتبك ولم يعرف كيف يجيب عندما سأله واحد: وكيف تعرف أن عبرانيين 1:1 الآية التي بنيت عليها نظريتك هى ضمن آيات الوحي الكامل التي يمكنك الاستناد عليها؟
كلا ، بل إننا نتفق تمامـاً مع "رينيه باش" الذي قال: سواء كان الإناء المستخدم في الوحي مقتدراً فى القول كموسى، حكيماً كدانيـآل، فاسداً كبلعام، عدواً كقيافا، مقدساً كيوحنا، بلا جسد كالصوت الذي سُمِع فوق جبل سيناء، بلا شعور كاليد الكاتبة على حائط قصر بابل. . . فإن الفكـركان من الله، والعبارة أيضاً من الله.
5- النظرية الروحية: بمعنى أن الله أعطى الوحي للروحيـات فقط، أما الأمور الأخرى التاريخية أو العلمية. . .الخ فهي تحتمل الخطأ، شأنها شأن أية كتابات أخرى في ذلك الزمان. ويقول أصحـاب هذه النظرية إن الله تكلم إلينا فعلاً عن طريق كتابه المقدس، لكن ليست نصوص الكتاب هى كلمة الله، بل فقط الرسالة الروحية التي أتت إلينا من خلال هذه الكلمات. فحادثة دانيآل في جب الأسود مثلا هي في نظرهم قصة خياليـة لكنها مع ذلك تصور لنا أهمية الصلاة! ومعجزة تكثير الخبز لم تحـدث فعلاً - هكذا هم يقولون - لكنها تعلمنا الإيثار وتقديم ما عندنا للآخرين، وهكذا. عبر عن هذه النظرية واحد عندما علق على قصة إغلاق إيليا للسماء، وإعالة الغربان له بالقول: هذه القصة من الوجهة التاريخية خاطئة، ومن الوجهة الروحية صحيحة!!
ينتج عن هذه النظرية الفاسدة عدم قبول ذات كلمات الكتاب باعتبارها « أقوال الله »، كما أنها تجعل القارئ حراً تماماً أن يقبل أو يرفض ما يـراه هو صحيحاً أو خطأ فى عبارات وأقوال الوحي. وعندما نرفض إعطاء السلطان لكلمات الكتاب المقدس ففيمن نثق بعد ذلك يا ترى؟ أيجوز لنا أن نجعل من أنفسنا قضاة على أقوال الله؟
ترى من الذي يقرر ما هو صحيح، وما ليس له قيمة؟ كيف يمكنك التمييز بين الحقائق والتعاليم ؟ هل نترك ذلك لتذوقنا نحن للأمور؟ إننا بذلك نكون قد وضعنا أنفسنا فوق الوحي لنحكم نحن عليه، وبذلك يفقد الوحي معناه أصلاً. ثم كيف نفصل رسالة الوحي عن الخلفية التي منها قُدِمَت لنا هذه الرسالة؟ وأين في كل الكتاب نجد هذا الفاصل المزعوم؟ أين نجد ولو إشـارة أو تلميحاً عنه؟ أين في كل الكتاب يمكننا أن نستنتج أن جزءاً من الوحي مهم وآخر غير مهم؟
الوحي اللفظي أو الكلي
قال المعلم المقتدر ف.ب.هول: نحن لسنا بحاجة أن نضع نظرية لشرح الوحي الحرفي أو اللفظي، فهذه شأنها شأن كل الحقائق الإيمانية لا نفسرها بل نقبلها بالإيمان. ونحن إذ نوافق هذا المعلم المعتبر، فإننا لن نشرح الوحي لكننا نُعرّفه كالآتي: هو تأثير إلهي مباشر يؤثر على ذهن كتبة الوحي، به تأهلوا لأن يقدموا الحق الإلهي بدون أدنى مزيج من الخطأ؛ وبناء عليه فإن الروح القدس أعطى كتبة الوحي لا الأفكار فحسب، بل قادهم قيادة ماهرة في إنشاء العبارات اللازمـة للتعبير الخالي من الخطأ عن هذه الأفكار التي أعلنها لهم.
الإدراك هنا ليس له المركز الأول؛ فقد يكون ذهن النبي مستنيراً إلى حد ما من جهة ما يكتب، أما الوحي فلا يوجد فيه شئ اسمه "إلى حد ما"، بل هو تملُّك كامل من الروح القدس لأواني الوحي، سواء أدرك النبي ما يقول أو لم يدرك. فمع أنه توجد درجات فى الإدراك، إلا أنه لا يوجد درجات في الوحي. لقد كان لدى داود بعض الإدراك، ويوحنا المعمدان كان إدراكه أكبر من داود، ورسـل العهد الجديد كان إدراكهم أكبر من يوحنا المعمدان، أما الوحـي الذي أُعطى لداود، بل وأقول أيضاً الذي أُعطى قبله لبلعام، هو وحي بنفس القدر الذي أُعطى لبولس.
والوحي يجعل النبي يتكلم بغض النظر عن حالته؛ فقد يتكلم دون توقع منه كالنبي الشيخ في بيت إيل (1مل13: 20)، أو دون دراية بما يقول كما حدث مع قيافا (يو11: 51)، أو دون رغبة منه كما حدث مع بلعام (عد23،24)، أو دون إدراك كامل لكل أبعاد ما يقول كما حدث مع معظم أنبيـاء العهد القديم (دا12: 8،9 و 1بط1: 11،12).
ومع أن الوحي عصم الأنبياء من الخطأ، لكنه لم يفقدهم شخصياتهم. إن ظهور شخصياتهم يمثل العنصر البشرى في الوحي، وحفظ الروح القدس لهم من أي خطـأ في التعبير عن أفكاره السامية يمثل العنصر الإلهي. لقد تزود كتبة الوحي بمعونة خاصة من الروح القدس حفظتهم تماماً من الخطأ، دون أن يعنى ذلك أنهم تزودوا بقدرات إدراكية فائقة، فهذه القدرات خاصة بالله مصدر الوحي، لا الأنبياء أواني الوحي.
عن هذا الوحي اللفظي والكامل قال أمير الوعاظ سبرجون: إننا نناضـل لأجل كل كلمة في الكتاب المقدس، ونؤمن بالوحي الحرفـي واللفظي لكل كلمة من كلماته، بل إننا نعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك وحي للكتـاب إذا لم يكن الوحي حرفياً، فلو ضاعت الكلمات فإن المعاني نفسها تضيع.
وقال الأسقف رايل: إن الإيمان بالوحـي الحرفي اللفظي، رغم كل ما فيه من صعوبات، هو أفضل عندي من الشكوك والحيرة. فإني أقبل هذه الصعوبات وأنتظر باتضاع حلها، لكن طوال فترة انتظاري فإني أقف على الصخرة.
أمثلة لتوضيح «الوحي اللفظي»