رسالة بولس الرسول إلى فليمون
١. السلام الرسولي
"بولس أسير يسوع المسيح وتيموثاوس الأخ المحبوب والعامل معنا،
وإلي أبفيّه المحبوبة، وأرخبس المتجنّد معنا،
وإلى الكنيسة التي في بيتك.
نعمة لكم وسلام من اللَّه أبينا، والرب يسوع المسيح" [1-3].
في مقدمة هذه الرسالة لم يُدع بولس "رسولاً" بل أسيرًا:
1. يعلل القدّيس يوحنا الذهبي الفم ذلك بأنه بهذا يثير حنوّ قلب فليمون تجاه بولس، فيكون لكلمات صديقه الأسير قوّتها وفاعليّتها.
2. بدعوته هذه يعلن مشاركته للعبد فيما يستحقّه من أسر، فهو يشترك مع أنسيموس فيما يأنف الناس منه... منتهى الحب!!
3. يقدّم لصديقه فرصة قبول أنسيموس لا بأمر رسولي إلزامي، بل بدافع الحب الاختياري، إنه ينصح لا يأمر، كي يكون إكليل فيلمون أعظم!
4. يفتخر بولس بأسره، لأن هذا هو عمل المشاركة مع ربنا يسوع أن يحتمل الإنسان الآلام والأتعاب معه. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم [عظيم هو لقب الرسول هذا، فإنه لم يذكر سلطانه أو قوته بل القيود والسلاسل!... إن أمورًا كثيرة جعلت منه إنسانًا مرموقًا مثل اختطافه إلى السماء الثالثة، لكنه لم يشر إلى ذلك بل استعاض عنه بالسلاسل!... فمن عادة المحبّين أن يتمجّدوا بما يتألّمون به من أجل محبوبيهم أكثر من أن يتمجّدوا بما يتقبّلونه منهم! ليس للملك أن يتمجّد بتاجه أكثر مما يتمجّد به بولس بقيوده!]
بهذا الافتخار يبعث الرسول في فليمون الشوق إلى احتمال الخسارة والمتاعب التي لحقت من أنسيموس بفرح من أجل الرب !
يشرك القديس بولس تلاميذه وزملاءه في الخدمة معه، فنجده يكتب الرسالة باسمه مع "تيموثاوس الأخ". ولعلّ فليمون تعرّف عليه في أفسس أو كولوسي.
في إهداء السلام يعطي اهتمامًا خاصًا بكل فرد قدر المستطاع:
1. يهتم بفليمون، فيدعوه "إلى فليمون المحبوب والعامل معنا". يكتب إليه بدالة وكشريك معه في الخدمة إذ يدعوه "العامل معنا" وربّما كان قد سيم أسقفًا في ذلك الوقت.
لا يدعوه "ابني فليمون" بل "العامل معنا"، أي شريك معي في العمل الرسولي، ملتزم أن يسلك بروح رسوليّة كخادمٍ ناضجٍ.
2. ويهتم بزوجته كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم "وإلى أبفية المحبوبة" أو كما يرى البعض أنها أخته. لكن الجميل في الأمر أن الرسول البتول وقد التهب قلبه بمحبّة البشريّة في الرب، خاصة وأنه قد كبر في السن لا يخجّل من أن يدعو الرجال والنساء بمحبوبيه، إذ تعلق قلبه بكل البشريّة كان يود أن ينفق ويُنفق من أجلهم!
3. يهتم بابن فليمون "أرخبس المتجنّد معنا"، فمع صغر سنه ومع كونه شماسًا أو ربّما كاهنًا، لكن الرسول يدرك أنه متجنّد معه في ذات العمل. إنه يشجعه أن يحارب كجندي صالح. فهو متجنّد مع بولس الرسول، بل ومع الكنيسة كلها تحت قيادة ربنا يسوع، ليصارع الكل بقلبٍ واحدٍ ضد أجناد الشرّ الروحيّة في السماويّات أي إبليس وجنوده.
4. وأخيرًا بعدما ذكر أقرباء فليمون بأسمائهم عاد ليقول "وإلى الكنيسة التي في بيتك" وهذه الكنيسة هي جماعة المؤمنين الذين كانوا يجتمعون في بيت فليمون. ويقول تاودوريطس أنه قد صار بيته كنيسة بقيت أجيالاً.
ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن من بين أعضاء الكنيسة من هم عبيد لفليمون، لهذا كان لائقًا أن يبحث عن أنسيموس العبد الهارب ويفرح به عندما يعود عضوًا فيها.
يختم الرسول افتتاحيّته بالسلام الرسولي، أي السلام الإلهي الموهوب لنا خلال رسله وكهنته. بدأ بالنعمة، قائلاً: "نعمة لكم"، حتى كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم تتذكّر نعمة اللَّه الغافرة لنا عن العشرة آلاف وزنة فنتسامح نحن عن الوزنات القليلة التي لنا لدى أمثال أنسيموس. وبهذا نتأهل للسلام الإلهي إذ نتشبّه بملك السلام.
٢. محبّة الرسول لصديقه
اعتاد الرسول أن يسلك بروح السيد المسيح، لذا نجده قبل أن يأمر فليمون بشيء يفيض عليه بالحب. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه يعطيه قبل أن يأخذ منه، يهبه عطفًا قبلما يطالبه بعطف أقل. وبهذا يخجّله من أن يرفض له طلبًا.]
"أشكر إلهي كل حين ذاكرًا إيّاك في صلواتي،
سامعًا بمحبتك والإيمان الذي لك نحو الرب يسوع ولجميع القدّيسين.
لكي تكون شركة إيمانك فعّالة
في معرفة كل الصلاح الذي فيكم لأجلالمسيح يسوع" [4-6].
لقد كشف له عن أعماق محبّته الداخليّة نحوه والتي تتمثّل في الآتي:
1. وسط أتعابه يتتبّع أخباره فيسمع عن إيمانه بالرب يسوع، ومحبّته لجميع القدّيسين. وهما الركيزتان اللّتان عليهما تُبني كل الحياة المسيحيّة. أي الإيمان الحيّ الفعال، الإيمان المشترك، أي إيمان الكنيسة الواحدة الجامعة الذي تتسلّمه عبر الأجيال بلا تحريف.
2. إعجابه به جعله يشكر إلهه كل حين بسببه، وهكذا تحوّل السجن بما فيه من آلام إلى خلوة يقدّم فيها الرسول التشكّرات والتسابيح لله من أجل نعمه على الكنيسة.
3. لم يفرح بولس وحده بفليمون، بل يقول: "لأن لنا فرحًا كثيرًا وتعزية بسبب محبّتك، لأن أحشاء القدّيسين قد استراحت بك أيها الأخ" [7]. يا لعذوبة حب الكنيسة ووحدتها، فإنها تفرح كثيرًا وتتعزّى بمحبّة رعاتها ورعيّتها ونموّهم الروحي.
ويعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم قائلاً بأن القدّيسين أشبه بأطفال مغرمين بحب والديهم، فإذ يشعرون بمحبّة أبيهم "فليمون" الذي يعمل بإيمانٍ وحبٍ، يفرحون وتستريح أحشاؤهم به.
٣. طلب الرسول من أجل أنسيموس
بعد هذه المقدّمة الملتهبة حبًا، بدأ يطلب من أجل أنسيموس، وفي طلبه يستخدم الحكمة فيقول له:
"لذلك وإن كان لي بالمسيح ثقة كبيرة أن آمرك بما يليق" [8].
يبدأ الطلب بقوة، أنه بالمسيح يقدر أن يتجاسر لا ليطلب بل ليأمر، لكنه يأمر "بما يليق". فبالمسيح تُنتزع الكلفة بين البشر، لكن المؤمن لا يأمر إلا بما يليق في الرب.
أما سرّ لياقة الطلب بل الأمر فهو:
1. أن المحبّة تلزم فليمون بقبول أنسيموس
"من أجل المحبّة أطلب بالحري،
إذ أنا إنسان هكذا نظير بولس الشيخ،
والآن أسير يسوع المسيح" [9].
كلمة شيخ Presbyter هنا تحمل السلطان الكهنوتي الأبوي. قضى هذا الأب المسن حياته في خدمة الرب محتملاً الآلام من أجل الكرازة، وها هو الآن أسير الرب. لذا يتكلّم بحب كهنوتي أبوي مملوء خبرة. لا يقدر هذا الأب أن يصمت متى رأى فرصة لراعٍ أو علماني أن يعمل خيرًا بل يطلب ذلك بالحري.
بهذا المعنى قال القدّيس أغناطيوس النوراني: [لا يسمح لي الحب بالصمت، لهذا وضعت على عاتقي أن أنصحكم حتى يسلك جميعكم معًا حسب إرادة اللَّه.]
2. مركز أنسيموس الجديد
تستند لياقة الطلب لا على دالة بولس الأبويّة وشيخوخته وآلامه في الرب فحسب، بل وعلى ما صار إليه أيضًا أنسيموس بعد الإيمان والعماد، إذ صار ابنا لبولس. ولده في أدق اللحظات، في فترة شيخوخته وفي أثناء سجنه. إنه ابن الشيخوخة، ابن القيود. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم ولده أثناء معركة قاسية، أثناء محاكمته من أجل الرب، لذلك فهو ابن مستحق الكرامة وله دالة أعظم.
ويعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على قول الرسول: "أطلب إليك لأجل ابني أنسيموس الذي ولدته في قيودي" [10]، إنه لم يقل هذا لأجل إخجال فليمون، ولا لإخماد غضبه، بل ليبهجه!
توبة أنسيموس وإيمانه وعماده أثناء سجن بولس أمر مبهج لا لفليمون وحده بل وللكنيسة كلها!
3. سمات أنسيموس الجديدة
يتابع